حاولت إسرائيل منذ قيامها عام 1948 أن ترسم لنفسها استراتيجية تتجاوز فيها الطوق العربى المحيط بها، وتقفز إلى ما وراءه حيث توجد قوميات أخرى ليست عربية، وكان بصرها مركزا منذ اللحظة الأولى على تركيا وإيران، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «سنوات الغليان»، فكيف حاولت مع إيران تحديدا لتعميق علاقاتها معها؟
يتتبع «هيكل» خطوات إسرائيل لتنفيذ طموحها مع إيران، مشيرا إلى ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية وما وقع فيها من عزل «رضا خان»، وصعود ابنه «محمد رضا خان» إلى العرش بمساعدة البريطانيين، ثم دخول النفوذ الأمريكى لإرث النفوذ البريطانى ضمن محاولة شملت الشرق الأوسط كله، وقيام حكومة الشاه بالاعتراف الفعلى بإسرائيل، وإن تمهلت بعض الشىء قبل أن تقدم اعترافها القانونى.
يضيف هيكل، أن الوجود الإسرائيلى منذ بدايته كان يتقدم حثيثا فى إيران محاولا احتلال أكبر مساحة للنفوذ والتأثير، وعندما بدأت بوادر الثورة الإيرانية بقيادة الدكتور محمد مصدق سنة 1951، اشتدت المعارضة لنمو العلاقات الإسرائيلية الإيرانية، وحققت نجاحا كبيرا عندما تصدى لقيادتها «آية الله الكاشانى» أبرز آيات الله فى «قم» وقتئذ، وفى مايو 1951 أعلن مكتبه أنه سئل فى فتوى عن شرعية الاعتراف الإيرانى بإسرائيل، فرد بفتوى شرعية صادرة عن حوزته، قال فيها إن الاعتراف بإسرائيل هو تأييد لعدوان يقع على العرب والمسلمين، والمسلمين غير العرب، وفى 7 يونيو 1951 صدر إعلان رسمى عن وزارة الخارجية الإيرانية يقول بالنص: «إن وزارة الخارجية الإيرانية بعثت تلغرافا اليوم إلى قنصليتها فى تل أبيب والقدس المحتلة تبلغهما أن أى وجود إيرانى رسمى فى إسرائيل أصبح منذ اليوم منحلا».
يؤكد هيكل، أن «آية الله الكاشانى» لم يكن واثقا من صدق نوايا وزارة الخارجية الإيرانية، فكتب خطابا لوزير الخارجية «كاظمى» يطلب منه تعهدا مكتوبا، فرد «كاظمى» بخطاب رقم 2002 نصه: «لخدمة الحضرة الشريفة آية الله السيد الحاج سيد أبو القاسم الكاشانى، دامت بركاته - ردا على خطابكم الشريف المؤرخ بتاريخ 18 يونيو، مثل هذا اليوم، 1951، نتشرف بعرض الآتى:
1 - لم تعترف الدولة الإمبراطورية الشاهانية إلى الآن اعترافا كاملا بدولة إسرائيل «يقصد التفرقة بين الاعتراف الفعلى، والاعتراف القانونى».. 2 - اتخذ فى الآونة الأخيرة قرار بحل القنصليات الإمبراطورية فى فلسطين.. 3 - لن يقبل فى إيران أى ممثل من إسرائيل، وبأى صفة كانت وأى عنوان»، ووقع وزير الخارجية على الخطاب الذى يعد تعهدا منه بعدم قيام أى علاقة مع إسرائيل.
يضيف هيكل، أنه بوقوع الثورة المضادة بالانقلاب على حكومة محمد مصدق يوم 19 أغسطس 1953، وعودة الشاه الذى كان هاربا إلى أوروبا خوفا من الثورة، انفتح المجال أمام إسرائيل، فوصلت بعثاتها التجارية إلى طهران، ولحق بها دبلوماسيون ورجال مخابرات، كما أصبح البترول الإيرانى المحرك الرئيسى لاقتصاد إسرائيل، والوقود الوحيد تقريبا لكل أسلحتها البرية والبحرية والجوية، وتنبهت الجامعة العربية وقتئذ إلى ما يجرى فكلفت نورى السعيد رئيس وزراء العراق وشريك الشاه فى حلف بغداد إلى أن يلفت نظره لعواقب التعاون الإسرائيلى الإيرانى النشيط، ويذكر «هيكل» أنه فى جلسة مجلس الجامعة العربية سنة 1955 روى نورى أنه حين فاتح الشاه فى الموضوع، رد قائلا: «لا يحق للعرب أن يطالبوننا بشىء، فعندما توقف إنتاج بترولنا أثناء أزمة التأميم أيام مصدق انتهز العرب الفرصة وزادوا من إنتاج نفطهم لتعويض نقص الأسواق بسبب توقف إنتاج البترول الإيرانى».
يؤكد هيكل، أنه أثناء العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 اعتمدت الآلة الحربية الإسرائيلية كليا على البترول الإيرانى، ولم يقتصر الأمر على التبادل التجارى بما فيه بيع البترول، ولا على النشاط الثقافى وإنما شمل تبادل وفود صحفية وإعلامية، كما بدأ السلاح الإسرائيلى يصل إلى إيران، وكانت مقدمته شحنة مدافع رشاشة من طراز «عوزى»، ثم ترددت أنباء عن اجتماعات سرية تعقد فى قصر المرمر بين الشاه وإسرائيليين فى مقدمتهم رئيس الوزراء بن جوريون، وموشى ديان، وشيمون بيريز المدير العام لوزارة الدفاع وقتئذ.
يضيف هيكل، أنه فى 18 يوليو 1960 نشرت صحيفة «كيهان» المقربة من الشاه خبرا فى صفحتها الأولى بعنوان «إقامة تمثيل دبلوماسى بين إيران وإسرائيل»، فوجه جمال عبدالناصر تحذيرا عنيفا إلى الشاه، وتحدث فى خطاب عام عن خطورة اعتراف الشاه بإسرائيل، وأنه بهذا الاعتراف يؤكد للعالم كله ولشعبه أنه ألعوبة فى يد المخابرات الأمريكية التى أعادته إلى العرش بعد الانقلاب المضاد على ثورة مصدق، وأن نهايته سوف تكون نهاية غيره من العملاء.
يؤكد هيكل، أن مختلف القوى الوطنية فى إيران رغم ما تعانيه من كبت وقمع راحت تتحرك حتى بالمظاهرات فى جامعة طهران، وتوقفت عملية تبادل السفراء وإن كانت تحولت إلى بعثة لرعاية المصالح المشتركة، لكن العلاقات نمت طوال عهد الشاه، حتى قطعتها الثورة التى قادها الإمام الخمينى عام 1979.