في ظل التصعيد المستمر في قطاع غزة والكارثة الإنسانية التي تطال أكثر من مليوني فلسطيني، تؤكد مصر مجددًا ثبات موقفها الداعم للحقوق الفلسطينية، وتمسكها بنهج مسؤول في التعامل مع هذه الأزمة المعقدة، بما يوازن بين مقتضيات الأمن القومي وضوابط العمل الإنساني والدبلوماسي وتحفظ كرامته على أراضيها، وتأتي التصريحات الأخيرة من القاهرة لتؤكد أن الدولة، باعتبارها مؤسسة راسخة، لا تساوم على أمنها واستقرارها، لكنها في الوقت ذاته لا تحيد عن دورها التاريخي والإنساني تجاه القضية الفلسطينية.
وشهدت مصر خلال الفترة الماضية، تزايداً ملحوظاً في الطلبات والاستفسارات المتعلقة برغبة وفود أجنبية رسمية وشعبية في زيارة المنطقة الحدودية المحاذية لقطاع غزة، وتحديداً مدينة العريش ومعبر رفح، تعبيرًا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني وكسر الحصار والاطلاع المباشر على تداعيات العدوان الإسرائيلي المستمر، وفي هذا السياق أكدت القاهرة على ضرورة الالتزام بالإجراءات الرسمية المسبقة، في تأكيد على منهجيتها الدقيقة في إدارة المشهد الحدودي الحساس، خاصة في ظل التحديات الأمنية الراهنة في شمال سيناء.
ونظرًا للحساسية الأمنية البالغة في المناطق الحدودية، يتطلب التعامل معها تنسيقًا محكمًا مع الجهات المختصة، لا يمكن تحقيقه إلا من خلال القنوات الرسمية، ولهذا أكدت مصر أن الطريقة الوحيدة للنظر في طلبات الزيارة تمر عبر تقديم طلبات رسمية، سواء من خلال السفارات المصرية في الخارج، أو البعثات الدبلوماسية المعتمدة بالقاهرة، أو عبر ممثلي المنظمات المعنية إلى وزارة الخارجية، ووفق الآلية المعمول بها منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة.
ويأتي هذا التشديد ضمن معادلة دقيقة تحرص فيها الدولة المصرية على المواءمة بين دعمها الثابت للحقوق الفلسطينية، والتزامها الصارم بسيادة القانون وحماية أمنها القومي، فالقاهرة لم تكتف بإعلان مواقف سياسية أو تقديم دعم إغاثي، بل واصلت الضغط المتواصل على المجتمع الدولي وعلى إسرائيل تحديدًا لإنهاء الحصار المفروض على غزة، وفتح الممرات الإنسانية لضمان تدفق المساعدات وتيسير حركة السكان، بما يعكس التزامًا عمليًا وشاملًا تجاه معاناة الشعب الفلسطيني.
وقد رحبت مصر بجميع المواقف الدولية والإقليمية الرسمية والشعبية، التي عبرت عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، ونددت بسياسة التجويع الممنهج والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لأحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، كما جددت القاهرة دعوتها للمجتمع الدولي بضرورة تحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية، والتحرك الفوري والفعال للضغط على إسرائيل من أجل رفع الحصار الظالم، وتسهيل الوصول الإنساني عبر المعابر التي تسيطر عليها، باعتبار أن النفاذ الإنساني، واجبًا، والتزاماً أخلاقياً ،وقانونياً.
وقد حرصت الدولة المصرية في ظل الوضع الأمني بالغ التعقيد الذي تعيشه المناطق الحدودية بين مصر وقطاع غزة منذ بدء العدوان، على وضع إجراءات صارمة لتنظيم دخول الوفود الأجنبية، بما يضمن حماية أمنها القومي من جهة، ويؤمن سلامة تلك الوفود من جهة أخرى بالنظر إلى المخاطر المحتملة في بيئة أمنية غير مستقرة، ولهذا شددت القاهرة بوضوح على أن التعامل مع أي طلبات للزيارة لا يكون إلا عبر القنوات الرسمية المعروفة، محذرة من أن أية مبادرات فردية أو تحركات غير منسقة أياً كانت دوافعها، فلن تحظى بالقبول أو النظر، حفاظاً على النظام، وصوناً لسيادة الدولة، وتفادياً لأي فوضى قد تستغلها أطراف تسعى لتوتير الأوضاع أو المساس بالأمن الوطني.
وتأتي هذه الإجراءات في إطار نهج دولة مؤسسات تُدار بمنطق العقلانية والحكمة والدبلوماسية، وتحكمها منظومة قانونية واضحة، بعيدًا عن ردود الأفعال الانفعالية أو الضغوط الآنية، وهو ما أكسب السياسة المصرية مصداقية راسخة واحترامًا واسعًا على الساحة الدولية، فليست مواقف القاهرة وليدة اللحظة، ولكن تستند إلى تجربة طويلة ومتعمقة في التعامل مع القضية الفلسطينية، تخللتها مواقف تاريخية من الدعم السياسي والدبلوماسي والإنساني، بدءًا من استضافة جولات الحوار الوطني الفلسطيني، مرورًا بجهود الوساطة في وقف إطلاق النار، وصولًا إلى تقديم المساعدات الميدانية وتسهيل مرورها إلى داخل القطاع.
ومنذ اندلاع العدوان الأخير على غزة، لم تتوان الدولة المصرية عن تكثيف تحركاتها الإنسانية والدبلوماسية، ففتحت معبر رفح أمام المساعدات، واستقبلت عشرات الوفود الدولية التي دخلت القطاع بإشراف منسق مع الأجهزة المصرية المعنية، في مشهد يعكس التزامًا عمليًا تجاه معاناة الشعب الفلسطيني، وفي هذا الإطار تؤكد القاهرة أن هذه الجهود ستتواصل وبوتيرة عالية، ولكن ضمن أطر قانونية وتنظيمية محكمة، تضمن الحفاظ على السيادة الوطنية وتؤمن سلامة الوفود وتبقي على الانضباط الضروري في منطقة حدودية حساسة تتقاطع فيها الاعتبارات الأمنية والإنسانية.
وفي هذا الصدد لم تتوان القاهرة عن توجيه رسائل واضحة ومتكررة إلى المجتمع الدولي، تطالب فيها بوقف فوري وشامل للعدوان على الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى ضرورة تحمل المجتمع الدولي لمسؤوليته الأخلاقية والقانونية في إنهاء الاحتلال، ودفع مسار الحل السياسي العادل، الذي يقوم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو موقف مبدئي راسخ ظل ثابتًا رغم ما عرفه الإقليم والعالم من تحولات متسارعة وأزمات متشابكة، كما تشدد مصر على أن احترام الإجراءات الرسمية، واتباع المسارات الدبلوماسية والقانونية أمام الدعم الإنساني يمنحه القوة والفاعلية ويحول دون استغلاله في غير غايته، أو توظيفه من قبل أطراف تستثمر في المعاناة لخدمة أجندات ضيقة أو لإحداث اختراقات أمنية مقلقة.
وتوجه مصر رسالة واضحة ومزدوجة، فهي ترحب بكل أشكال التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتدعم المبادرات الإنسانية الجادة، لكنها في الوقت ذاته تتمسك بحقها في تنظيم هذا التضامن وفق ما تقتضيه سيادتها وأمنها القومي، لاسيما في ظل الضغوط الأمنية غير المسبوقة التي تشهدها حدودها الشمالية الشرقية، فالانضباط القانوني للعمل الإنساني والتضامني صمام أمان يحول دون تحويله إلى أداة اختراق أو منصة للفوضى، وهو ما يحمل الجميع أفرادًا ومؤسسات، مسؤولية مضاعفة في التعاطي مع الوضع الراهن بمسؤولية وحكمة وحذر ووعي بطبيعة اللحظة ودقة الحسابات، بعيدًا عن الشعارات أو المحاولات الانفعالية التي قد تعقد المشهد بدلًا من أن تخفف من مآسيه.
وتؤكد مصر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أنها دولة مؤسسات تُدار بالقانون وتحكمها ضوابط واضحة لا تنكسر أمام الضغوط أو محاولات الابتزاز غير الرسمي، وتواصل أداء دورها المحوري في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية دون كلل أو تراجع، انطلاقًا من مسؤوليتها التاريخية وموقعها الريادي في دعم قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومن هذا المنطلق فإن الالتزام بالإجراءات القانونية لتنظيم زيارة المناطق الحدودية هو إطار ناظم يضمن فاعلية الجهود ويصون سلامة الجميع دون المساس بسيادة الدولة أو تعريض أمنها للخطر، إن حماية الأمن القومي ليست نقيضًا لدعم القضايا العادلة، ولكن ركيزة أساسية لضمان استدامة هذا الدعم واستقلاليته، ومصر تجسد هذا التوازن بحكمة ومسؤولية، مُسخرة أدواتها السياسية والدبلوماسية والقانونية والإنسانية لخدمة الحق والعدل، دون أن تفرط في أمنها أو تُفرغ مواقفها من مضمونها السيادي والمؤسسي.
__________
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر