بوابة كأس العالم للأندية

مظهر شاهين

العلمانيون الجدد.. بين تكرار التشكيك وفشل الفكرة وعجز الدليل

الخميس، 12 يونيو 2025 04:00 م


منذ اللحظةِ التي بزغ فيها نورُ الإسلامِ على يدِ النبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، والإسلامُ في حالةِ مواجهةٍ دائمةٍ مع خصومِه، فكريًّا ودعويًّا وحضاريًّا. فمنذ نزولِ الوحيِ الأوّل، بدأت السهامُ تُوجَّه إليه من كلّ اتجاهٍ، وتعدّدت وسائلُ الهجومِ عليه عبر العصور، وإنِ اختلفت الأسماءُ والوجوهُ. من قريشٍ التي اتّهمت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بأنّه شاعرٌ وساحرٌ وكاهنٌ، إلى كهنةِ أوروبا الذين حرّضوا على الحروبِ الصليبيّة، إلى المستشرقين الذين حاولوا تفكيكَ النصوصِ والشكَّ في مصادرها، إلى ما نراه اليوم من دُعاةِ ما يُسمّى بالعلمانيّةِ الجديدة، الذين ما فتئوا يُكرّرون ذاتَ الشبهاتِ القديمةِ لكن بثوبٍ عصريٍّ، مُتوهمين أنّهم جاؤوا بما لم يأتِ به الأوائلُ.

غير أنّ المُراقبَ المُنصفَ للتاريخِ يجدُ أنّ هذه الحملاتِ مهما تغيّرت أشكالُها وعلَتْ أصواتُها، لم تُفلِح يومًا في إضعافِ الإسلامِ أو تقليلِ مكانته، بل على العكس، كلّما اشتدّت الهجمات، ازداد الإسلامُ رسوخًا وانتشارًا، حتّى غدا اليومَ الدينَ الأسرعَ نموًّا في العالم، يشهدُ بذلك خصومُه قبلَ مُحبّيه، ويعترف بذلك الباحثونَ والمؤسّساتُ الدوليّةُ المتخصّصةُ، رغم محاولاتِ الحصارِ والتشويهِ والإقصاءِ التي لا تزال قائمةً حتى اللحظة.

والمُدهش أنّ من يُسمّون أنفسَهم بالعلمانيّين الجُدد لا يحملون في جُعبتِهم طرحًا جديدًا يستحقُّ النقاش، بل يُعيدون تدويرَ الشبهاتِ القديمةِ ذاتها التي سبقهم بها أعداءُ الإسلامِ من قرون. فهم، مثلًا، يُعيدون الترويجَ لشبهةِ أنّ النبيَّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم استقى القرآنَ من كتبِ اليهودِ والنصارى، وهي فريةٌ قال بها أحبارُ اليهودِ في المدينة، ثم تبنّاها لاحقًا المستشرقُ المجريّ غولدزيهر، وقد فَنَّد العلماءُ هذه الشبهةَ بالحُججِ العقليّةِ والنقليّةِ والتاريخيّة، مؤكّدين استحالةَ أن يكون هذا الكتابُ الخالدُ من نتاجِ عقلٍ بشريٍّ أو مُستقىً من ثقافاتٍ سابقة.

كما يُكرّرون الاتهامَ بأنّ الإسلامَ دينُ عنفٍ، وهي دعوى أطلقها الفرنسيُّ إرنست رينان في القرن التاسع عشر، ليردَّ عليه مفكّرو الغربِ أنفسُهم، ويُثبتوا أنّ الإسلامَ انتشر بالحُجّةِ والعدل، لا بالإكراهِ والسيف، وأنّ أكثرَ البلادِ الإسلاميّةِ دخلها الإسلامُ دون قتال، كإندونيسيا وماليزيا وأفريقيا جنوبَ الصحراء.

ثم لا يملّ هؤلاء من الطعنِ في السنّةِ النبويّةِ، كما فعل جوزيف شاخت ومن على شاكلته، مُتجاهلين الجهدَ الجبّارَ الذي بذله علماءُ الحديثِ في تمحيصِ الرواياتِ وتنقيحِ الأسانيد، والصّرامةَ المنهجيّةَ التي لم تعرفها أيُّ حضارةٍ أخرى في توثيقِ الرواية.

ولم يقفِ الأمرُ عند ذلك، بل ذهبوا إلى الزعمِ بأنّ الإسلامَ يقفُ ضدّ العقلِ والعِلم، مُتغافلين عن أنّ الإسلامَ كان المُحرّكَ الأوّلَ للنهضةِ العلميّةِ في عصورِ ازدهارِ الحضارةِ الإسلاميّةِ، بينما كانت أوروبا تغرقُ في ظلماتِ القرونِ الوسطى، وتحرقُ العلماءَ في محاكمِ التفتيش. إنّهم يُكرّرون ما فشل فيه السّابقون، ويظنّون أنّهم يخترعون جديدًا، بينما الحقيقةُ أنّهم لا يفعلون أكثرَ من الكتابةِ على الماء، لا تثبتُ حُجّةٌ، ولا تُقنع عقلًا، ولا تبني فكرة.

والمفارقةُ أنّ هذه الحملاتِ تزامنت، على مرّ العصور، مع أصواتٍ مُنصفةٍ من مفكّري الغربِ وعلمائِه، اعترفوا بعظمةِ الإسلامِ وإنصافِ تعاليمِه، رغم اختلافِ العقيدةِ والانتماء. فالمستشرقُ البريطانيّ مونتغمري وات، قال: “محمّدٌ لم يكن دجّالًا، بل نبيٌّ مُصلح، غيّر مجرى التاريخِ بروحانيّةٍ متّزنةٍ ومنهجٍ عقلانيّ”.
بينما صرّح غوستاف لوبون الفرنسيّ بأنّ الإسلامَ لم ينتشر بالسيف، بل بالتسامحِ والعدل، وأنّ العربَ أناروا أوروبا علمًا وحضارة.
وأكّد توماس أرنولد أنّ المسلمين لم يُكرِهوا أحدًا على الدخولِ في الإسلام، وأنّهم في الأندلسِ كانوا أكثرَ تسامحًا من أيّ قوّةٍ مُسيطرةٍ أخرى في ذلك الوقت.
أما الألمانيّة سيغريد هونكه، فقد كتبت: “بينما كانت أوروبا تحرقُ العلماءَ، كان المسلمون يفتحون جامعاتِهم لكلّ طالبِ علم، وكان القرآنُ هو مصدرَ إلهامِهم”.
ولم يكن برنارد شو أقلّ وضوحًا حين قال: “لو تولّى محمّدٌ قيادةَ العالمِ اليوم، لحلّ مشكلاتِه وهو يحتسي فنجانَ قهوة”.

إنّها شهاداتٌ تُنصفُ الحقيقةَ وتُبطل كثيرًا من الأوهام، وتدلّ على أنّ المشكلةَ ليست في الإسلام، بل في أعينٍ لا تُبصرُ نورَه، وقلوبٍ لا تحتملُ إشراقَه.

والحقُّ أنّ الإسلامَ، رغم كلِّ التحدّياتِ التي واجهها، من نقدٍ فلسفيّ، وهجومٍ عقائديّ، واحتلالٍ عسكريّ، وحصارٍ إعلاميّ، بقي صامدًا وحده، فيما انهارت أو تآكلت المذاهبُ والنظرياتُ الأخرى.
فقد انهارت الشيوعيّةُ بعد سبعين عامًا من التطبيلِ لنظريّاتها، وأصاب الرأسماليّةَ ما يُشبه الانهيارَ الأخلاقيّ نتيجةَ طغيانِ المادةِ وتآكلِ القيم، فيما الليبراليّةُ التي بشّرت بالحرّيّةِ الفرديّةِ باتت اليوم عاجزةً عن السيطرةِ على مجتمعاتِها، التي تُعاني من التفكّكِ الأسريّ والانهيارِ الروحيّ.
بينما الإسلامُ بقي حيًّا في القلوب، فاعلًا في الواقع، متجدّدًا في عطائه، مُتصدرًا في النموّ والانتشار، لأنّه ليس من صُنع البشر، بل من عند خالقِ البشر.

ولعلّ الرسالةَ الأهمّ التي ينبغي أن تصلَ إلى دُعاةِ العلمانيّةِ الجديدة، أنّ الإسلامَ لا يطلبُ من أحدٍ أن يصمُت، لكنّه يطلبُ شيئًا أعمق من ذلك، وهو أن يتجرّد الإنسانُ من أهوائِه المسبقة، وينظرَ إلى الإسلامِ بعينٍ باحثةٍ لا مُتربّصة، بعقلٍ ناقدٍ لا متعصّب. أن يسألَ نفسَه: لماذا هذا الدينُ بالذاتِ يُحاربُ بهذا الشكل؟ ولماذا لم تهزّه قرونٌ من العواصفِ الفكريّةِ والسياسيّة؟
إنّ الجوابَ واضحٌ لكلّ منصف: لأنّ الإسلامَ من عند الله، لا من صالوناتِ الفكرِ البشريّ المتقلّب. لأنّه دينُ الفطرة، ودينُ الحُجّة، ودينُ العقلِ والرّوحِ والضمير.

ولذلك، فإنّ كلّ من حاول أن يطعنَ فيه خرجَ خاسرًا، وكلّ من أراد أن يُطفئَ نورَه، عاد عليه هذا النورُ بحرقةِ الحُجّة، ووضوحِ الحق، وقوّةِ البرهان.
أما من يكتبون ضدّه، فهم لا يكتبون إلّا على سطحِ ماء، لا يلبث أن يتلاشى، وتبقى الحقيقةُ وحدها ناصعةً كما هي. كلماتُهم لا تبقى، واتّهاماتُهم لا تُثمر، وجهودُهم لا تُنتج إلّا وَهمًا لمُتوهم.

يبقى الإسلامُ أقوى من كلِّ الشُّبهات، لأنّه لم يكن يومًا خصمًا للعقل، ولا عدوًّا للعلم، ولا مُنافسًا للحرّيّة، بل هو الدِّين الوحيدُ الذي جعلَ العقلَ شرطًا للإيمان، وجعلَ طلبَ العلمِ فريضةً، ورفعَ من قيمةِ الإنسانِ حتّى جعله خليفةً في الأرض.
فكلُّ من يُهاجم الإسلامَ لا يُهاجمُه لأنّه ضعيفٌ أو مُتهالك، بل لأنّه قويّ، مُتجذّر، مُتماسك، مُتصدّر. ولا يُطارَد لأنّه في آخرِ الصفوف، بل لأنّه في المقدّمة.

فليقولوا ما شاؤوا، وليكتبوا ما أرادوا… فإنّ أقصى ما يملكونه هو بعضُ ضجيجٍ، وبعضُ حملاتٍ، ونُقوشٌ على سطحِ الماء…
بينما الإسلامُ، كما قال الله تعالى:

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾

 

 



أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب





الرجوع الى أعلى الصفحة