وسط الأجواء الروحانية التى تعم الحرم المكى، لا شيء يضاهى رهبة اللحظة التى يرفع فيها الحاج أو المعتمر كوبًا من ماء زمزم إلى شفتيه.
هذا الماء المبارك الذى يرتبط اسمه بمعجزة خالدة، لا يُشرب لمجرد الارتواء، بل تُشرب معه نية الدعاء، ويُرتجى معه الشفاء، ويحمل فى طعمه رمزية إيمانية متجذرة فى وجدان المسلمين.
تبدأ قصة زمزم منذ آلاف السنين، حين ترك النبى إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل عليه السلام فى وادٍ غير ذى زرع. وما أن جفّ الماء حتى سعت هاجر بين الصفا والمروة تبحث عن قطرة تروى بها صغيرها، فجاء الفرج من حيث لا تحتسب، ففجّر الله عز وجل عين زمزم تحت قدمى الرضيع، فكانت الحياة فى الصحراء القاحلة، وكانت المعجزة التى لم تجف منذ ذلك الحين.
ومنذ ذلك اليوم، أصبح زمزم ماءً لا يشبه سواه، يُقبل عليه المسلمون من كل مكان، ويحرصون على شربه بنية خالصة، فقد ورد عن النبى محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شُرب له". هذه العبارة القصيرة حفرت فى قلوب المؤمنين يقينًا بأن لكل رشفة مقصدًا، ولكل نية شرف القبول.
توزع السلطات السعودية هذا الماء فى أرجاء الحرم المكى عبر آلاف الحافظات المبردة والنظيفة، كما يُسمح للحجاج والمعتمرين بنقل كميات محددة معهم عند العودة إلى بلادهم، ليكون زمزم حاضرًا فى البيوت، يُقدّم للمرضى، ويُرشّ فى أركان المنازل، ويُهدى للأحبة، كأنما يحمل بركة المكان والزمان.
ولا يمكن تجاهل الدور الكبير الذى لعبه العلم فى تأكيد خصوصية ماء زمزم، فقد أثبتت تحاليل مخبرية من جهات مختلفة أن خصائصه الكيميائية فريدة، وتركيبته متوازنة، ولا تنمو فيه الطفيليات، رغم أنه يُخزن لفترات طويلة دون أن يتغير طعمه أو رائحته.
بين المعجزة واليقين، وبين الماضى والمستقبل، يبقى ماء زمزم شاهدًا على قصة أم وطفل، ونبعًا لا ينضب من الرحمة، لا يُطفئ العطش فحسب، بل يروى به القلب أيضًا.