في لحظة مفصلية تعيد فيها مصر صياغة مكانتها الإقليمية والدولية على أسس من التوازن والتنوع والانفتاح، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى القاهرة لتؤكد أن العلاقات المصرية الفرنسية تسير بخطى ثابتة نحو شراكة استراتيجية شاملة، تتجاوز البروتوكولات السياسية التقليدية لتلامس عمق المصالح المشتركة، وتعبر عن تفاهم متبادل في ملفات معقدة تتراوح بين الأمن الإقليمي، والاقتصاد، والثقافة، وقضايا المناخ والتنمية.
لم يكن استقبال مصر للرئيس ماكرون حدث دبلوماسي معتاد، بل كان مشهدا يحمل في طياته رسائل سياسية واقتصادية وثقافية عميقة، تؤكد أن القاهرة عادت بقوة لتكون مركزا لصياغة المعادلات الدولية في الشرق الأوسط وأفريقيا، وأن باريس ترى أن مصر شريكا لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار الإقليمي ومواجهة التحديات العالمية المتصاعدة، كما أن تداعيات الحرب في غزة ما زالت تلقي بظلالها على استقرار الشرق الأوسط، فبينما تواصل إسرائيل عدوانها الوحشي على قطاع غزة، و تتعثر جهود الهدنة، وتقف المنطقة على حافة انفجار إقليمي كبير، تأتي مصر لتقود من جديد دبلوماسية الأزمة بمزيج من الحنكة السياسية والتحرك الإنساني، وقد وجدت في فرنسا شريكا أوروبيا بدأ يستعيد قدرا من التوازن في مواقفه، بعد أن لاحظ العالم تغيرا نسبيا في خطاب الإليزيه إزاء التصعيد الإسرائيلي واتفق الرئيسان على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وتكثيف الجهود لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وعلى أهمية إطلاق عملية سياسية تضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وتلك هي الرؤية المصرية التي لم تتغير، والتي بدأت باريس تبدي تفهما متزايدا لها في ضوء انهيار مسار الحلول المجتزأة وهو تحول يحسب للدبلوماسية المصرية التي تمارس تأثيرا ناعما وعقلانيا على شركائها الدوليين حيث لم تطلب مصر من شركائها بيانات تضامن بقدر ما تطلب مواقف مسؤولة تدرك أن استمرار الاحتلال هو أصل المشكلة، وأن الحديث عن مكافحة الإرهاب لا يمكن أن يكون غطاء لانتهاك حقوق الشعوب.
وعلى الصعيد السياسي والأمني، حملت الزيارة تأكيدا على دعم فرنسا للدور المحوري الذي تلعبه مصر في تهدئة الأزمات الإقليمية، لا سيما في غزة وليبيا والسودان، وتقديرا للنهج المتوازن الذي تتبناه القيادة المصرية في التعامل مع القضايا الدولية الحساسة وأكدت أن مصر هي بوابة الاستقرار في المنطقة، وأن التعاون معها ضرورة أوروبية في مواجهة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والتحديات الأمنية في الساحل الأفريقي وفي المقابل، أبدت مصر حرصا على استمرار التشاور مع فرنسا في القضايا ذات الاهتمام المشترك، مما يعكس حرصها على تنويع شراكاتها الدولية وتعزيز مكانتها كدولة ذات ثقل في موازين القوى الدولية.
اقتصاديا، كانت الزيارة فرصة لإعادة تنشيط ملف التعاون الاستثماري والتجاري، حيث تم توقيع عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين الشركات الفرنسية والمؤسسات المصرية، في مجالات النقل والطاقة المتجددة والصناعة والبحث العلمي وأكد الجانبان رغبتهما في رفع حجم التبادل التجاري، وتشجيع الشركات الفرنسية على توسيع استثماراتها في السوق المصرية، التي تشهد حاليا تحولات كبيرة على مستوى البنية التحتية والإصلاحات الاقتصادية وجاء ماكرون محملا برؤية فرنسا لشراكة قائمة على الربح المتبادل، وتقدير حقيقي لفرص الاستثمار في مصر، لا سيما في ظل المشروعات القومية الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ومحور قناة السويس، ومبادرة "حياة كريمة" التي لفتت أنظار المجتمع الدولي كنموذج للتنمية المستدامة كما أبدت مصر اهتماما خاصا بالاستفادة من الخبرات الفرنسية في مجالات النقل الذكي والتعليم الفني والطاقة الخضراء.
الثقافة والتعليم لم تغب عن جدول الزيارة و كانت محورا رئيسيا في المناقشات، إذ تم التأكيد على أهمية تعزيز التعاون في مجالات التبادل الأكاديمي، والتعليم الفرنسي في مصر، ودعم أنشطة المعهد الفرنسي والمراكز الثقافية، بما يعكس العلاقة الحضارية العميقة بين الشعبين، و حضور فرنسا في الوجدان الثقافي المصري ليس طارئا بل هو امتداد لتاريخ من التواصل والتأثير المتبادل، وتجدد هذا الحضور يعكس رغبة في بناء المستقبل على أساس من المعرفة والتفاهم.
ولعل من المهم التأكيد على أن زيارة الرئيس الفرنسي لم تكن معزولة عن السياق الإقليمي والدولي، بل كانت جزءا من إعادة رسم خرائط العلاقات الدولية في عالم ما بع…