فى شارع جميل باشا بحي شبرا، وعلى أرض مشبعة بالحكايات، أُسدل الستار على حياة شاعر استثنائي، رحل محمد صلاح الدين بهجت حلمي، الشهير بــ "صلاح جاهين"، في 21 أبريل من عام 1986، لكنه لم يرحل فعليًا، بقيت كلماته تسكن القلوب، وتطوف مع النسمات في شوارع القاهرة، وظلت ضحكته الساخرة تتردد في سطور كاريكاتيراته، وأبياته، وشاشات السينما، وحتى في عرائس الأوبريت.

صلاح جاهين ابن المستشار الذي بدأ كوكيل نيابة وختم حياته رئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة، لم يغره درب القضاء، فاختار جاهين أن يكون قاضيًا من نوع آخر، يحاكم الوجع المصري بالقصيدة الساخرة، ويدين قسوة الحياة بريشة كاريكاتير، ويخفف ثقل الهم بـ"رباعية" تلخص مأساة الوجود في أربعة أبيات.
كان الفن عند صلاح جاهين لم يكن اختيارًا، بل قدرًا، حلم بأن يكون راقص باليه، ولم يمنعه وزنه كما قال في إحدى حواراته، بل كانت الحركات أصعب من روحه الحرة، ولكنه مارس كل الفنون فكتب الشعر، رسم الكاريكاتير، وألف السيناريو، ومثل أحيانًا، لكنه كان دومًا الشاعر الذي يرى الحياة من زاوية عجيبة تعبر عن الدهشة.

لكن من بين كل إبداعاته، كانت الرباعيات هي تاجه البهي، العمل الذي ألقى بظله على تاريخ الشعر العامي المصري، وصنع صداقة خالدة بينه وبين الموسيقار الراحل سيد مكاوى والذى رحل فى مثل يوم رحل رفيق دربه "جاهين" 21 أبريل ولكن فى عام 1997، ، الذي لحن هذه الرباعيات بموسيقى عذبة، وغناها الفنان الكبير علي الحجار بصوت يحمل عبق التاريخ وتأمل الفلاسفة.
وبيعت إحدى طبعات الرباعيات" في الهيئة المصرية العامة للكتاب بأكثر من 125 ألف نسخة خلال أيام، لتثبت أننا نن أمام رباعيات من نوع خاص، تحمل في طياتها الفلسفة والعبث، السخرية والحنان، الأسئلة التي لا تموت.
كتب صلاح جاهين أكثر من 161 قصيدة، منها "على اسم مصر" و"تراب دخان"، وكان صوته حاضرًا في أوبريت "الليلة الكبيرة" الذي تربى عليه ملايين الأطفال، وظل عالقًا في وجدان الكبار، كما كتب أفلامًا لا تنسى مثل "خلي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا" و"شفيقة ومتولى"، وصنع ذاكرة سينمائية محملة بالموسيقى والحرية والتمرد.
رباعياته لم تكن فقط شعرًا، بل كانت مرآة عميقة لروحه، مثلما قال:
خرج ابن آدم من العدم قلت : ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت : ياه
تراب بيحيا ... وحى بيصير تراب
الأصل هو الموت و الا الحياه ؟
عجبى !!!
أنا اللى بالأمر المحال إغتوى
شفت القمر نطيت لفوق فى الهوا
طلته ماطلتوش إيه أنا يهمني
وليه مادام بالنشوة قلبى ارتوى
وعجبي..
ضريح رخام فيه السعيد اندفن
و حفره فيها الشريد من غير كفن
مريت عليهم .. قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم لها نفس العفن
عجبى !!!