يحتفل الأخوة المسيحيون اليوم بخميس العهد، ضمن أسبوع الآلام، وهو اليوم المعروف "بالعشاء الأخير" وترتبط باليوم الليلة الأخيرة التى قضاها المسيح مع تلاميذه، لكن كيف كانت هذه الليلة، ومما تكونت الوجبة الأخيرة له.
يقول كتاب ألغاز المسيح لـ فراس السواح تحت عنوان "هل تناول يسوع عَشاء الفصح؟":
فى وقفة عيد الفصح تذبح كل أسرة يهودية مقتدرة خروفًا أو جديًا يُدعى بحَمَل الفصح، ثم يتناولونه مساء وفق طقس خاص يُدعى عشاء الفصح، وذلك احتفالًا بذكرى الخروج من مصر.
فهل تناول يسوع عشاء الفصح وفق التقليد الدينى اليهودي؟ الأرجح هو أنه لم يتناوله، والوجبة الأخيرة التى تناولها يسوع مع تلاميذه لم تكن عشاء فصح بل عشاءً أخيرًا وفق التسمية الصحيحة لها.
إن أقدم رواية عن وجبة العشاء الأخير جاءت من رسائل بولس الرسول التى كانت متداولةً بين المسيحيين قبل تدوين الأناجيل. فهو يقول فى الرسالة الأولى إلى أهالى كورنثوس: "فإنى تلقيت من الرب ما بلَّغته لكم، وهو أن الرب يسوع فى الليلة التى أُسلم فيها، أخذ خبزًا وشكر ثم كسره وقال: هذا هو جسدى إنه من أجلكم. اعملوا هذا لذكري. وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: هذه الكأس هى العهد الجديد بدمي. اعملوا هذا كلما شربتم لذكري".
فهنا يصف بولس ليلة العشاء الأخير بأنها الليلة التى أُسلم فيها يسوع لا بأنها ليلة الفصح، كما أن يسوع يؤسس هنا لمفهوم "العهد الجديد" الذى يوثِّقه الله مع البشرية، بديلًا عن "العهد القديم" الذى وثقه يهوه مع شعب إسرائيل. وقد تم توثيق هذا العهد الجديد بدم يسوع الذى يرمز إليه خمر العشاء الأخير: "هذه الكأس هى العهد الجديد بدمي
الشاهد الثانى هو مؤلف إنجيل يوحنا، الذى أشار فى روايته وبأكثر من طريقة إلى أن العشاء الأخير قد حدث عشية الأربعاء فى اليوم السابق لعيد الفصح، فعندما ساق اليهود يسوع إلى دار الوالى بيلاطس صباح يوم الإعدام يقول المؤلف: "وجاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، ولكنهم لم يدخلوها مخافة أن يتنجسوا فلا يتمكنوا من أكل عشاء الفصح» (يوحنا، ١٨: ٢٨). وعندما جلس بيلاطس على كرسى الولاية لإصدار الحكم بحق يسوع، يقول لنا المؤلف: "وجلس على كرسى القضاء فى موضع يُسمى البلاط ويقال له بالعبرية جِبَّاثة. وكان ذلك يوم تهيئة للفصح" (يوحنا، ١٩: ١٣–١٤)، وسنقدم فيما يلى قصة العشاء الأخير برواية يوحنا لنلاحظ كيف أنه لم يشأ لنا أن نعتقد بأن هذا العشاء كان عشاء فصح:
"وكان يسوع يَعلم وقد اقترب عيد الفصح، أن ساعة انتقاله من هذا العالم إلى الآب قد حانت. وقد أحب أصحابه الذين هم فى العالم إلى المنتهى؛ فحين كان العشاء وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا بن سمعان الإسخريوطى أن يسلِّمه، قام عن العشاء فخلع رداءه وأخذ بمنشفة فائتزر بها ثم صب ماء فى مطهرة وشرع يغسل أقدام تلاميذه ويمسحها بالمنشفة التى كان مؤتزرًا بها. فجاء إلى سمعان بطرس فقال له سمعان: يا سيد، أأنت تغسل قدمي؟ فأجابه يسوع: أنت الآن لا تفهم ما أنا فاعل ولكنك ستفهم فيما بعد. فقال له بطرس: لن تغسل قدمى أبدًا. أجابه يسوع: إذا لم أغسلك فلا حظَّ لك معى أبدًا. فقال له سمعان بطرس: يا سيد، لا تغسل قدمى وحدهما بل أيضًا يدى ورأسي. فقال له يسوع: مَن اغتسل لا يحتاج إلا إلى غسل قدميه لأنه كله طاهر، وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم. لأنه كان يعرف الذى سيسلِّمه. فلما غسل أقدامهم ولبس رداءه وعاد إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعوننى معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأننى كذلك. وإذا كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضُكم أقدامَ بعض، لأنى أعطيتكم مثالًا، حتى كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا … واضطربَت نفسُ يسوع عند هذا الكلام وشهد وقال: الحق، الحق أقول لكم: إن واحدًا منكم سيسلمني. فنظر التلاميذ إلى بعضهم حائرين فيمَن قال عنه. وكان متكئًا على حضن يسوع واحد من تلاميذه الذى كان يحبه، فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل مَن عسى أن يكون الذى قال عنه، فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد، مَن هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا بن سمعان الإسخريوطي. فدخل فيه الشيطان بعد اللقمة. فقال له يسوع: افعل ما أنت فاعل ولا تُبطئ. فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا قال له ذلك. فظن بعضهم أن يسوع قال له اشترِ ما نحتاج إليه فى العيد، أو أمره بأن يعطى شيئًا للفقراء لأن يهوذا كان مؤتمنًا على صندوق الدراهم. فتناول اللقمة وخرج من وقته، وكان الليل قد أظلم" (يوحنا، ١٣: ١–٣٠).
إذا انتقلنا إلى التقليد المرقسى لرواية العشاء الأخير، وهو التقليد الذى اتبعه متَّى ولوقا، نجد أن العشاء الأخير قد أُقيم فى مساء يوم الخميس، وأن يسوع قد أعدَّ ترتيباتِه مسبقًا من أجل الاجتماع بتلاميذه فى ذلك اليوم:
"فى أول يوم من أيام الفطير، اليوم الذى تُقرَّب فيه ذبيحة الفصح، قال له تلاميذه: إلى أين تريد أن نمضى فنُعد لك عشاء الفصح لتأكله؟ فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلقاكما رجل يحمل جرة ماء فاتبعاه، وقولَا لرب البيت حيث يدخل: يقول المعلم أين غرفتى التى آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما عُلِّيَّة كبيرة مفروشة مهيأة فأعدَّاه لنا هناك. فذهب التلميذان وأتيا المدينة فوجدا كما قال لهما وأعدَّا عشاء الفصح."
"ولما كان المساء جاء مع الاثنَى عشر. وبينما هم على الطعام يأكلون قال يسوع: الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني، الآكل معي. فاستولى عليهم الحزن وأخذ يسأله الواحد بعد الآخر: أأنا هو؟ فقال لهم: إنه واحد من الاثنى عشر، الذى يغمس معى فى الصحفة. ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويلٌ لذلك الرجل الذى يسلم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد. وفيما هم يأكلون أخذ خبزًا وبارك ثم كسرَه وناولهم وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشرب وناولهم فشربوا منها كلهم وقال لهم: هذا هو دمى الذى للعهد الجديد يُسفك من أجل كثيرين. الحق أقول لكم إنى لا أشرب بعدُ من نتاج الكرمة حتى يأتى يومٌ فيه أشربه خمرة جديدة فى ملكوت الله. ثم سبَّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون."
"فقال لهم يسوع: ستشكُّون فى كلكم فى هذه الليلة لأنه مكتوب: "سأضرب الراى فتتبدد الخراف"، ولكن بعد قيامى سأسبقكم إلى الجليل. فقال له بطرس: إن شك الجميع فأنا لا أشك. فقال له يسوع: الحق، الحق أقول لك، إنك اليوم فى هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تُنكرنى ثلاث مرات. فقال بأكثر تشديد: لست بناكرك وإن قُضى على بأن أموت معك. وهكذا قال جميعهم" (مرقس، ١٤: ١–٣١).
على الرغم من توكيد مرقس هنا على أن العشاء الأخير كان عشاء فصح، إلا أن أثرًا باقيًا من القصة الأصلية يتمثل فى رغيف الخبز الذى كسره يسوع، يدل على أن هذا العشاء لم يكن عشاء فصح.