كانت السيدة انتصار الوزير نائمة، فيما كان زوجها خليل إبراهيم الوزير الملقب بـ«أبو جهاد» فى غرفة عمله، واستيقظت الزوجة على ضجيج اقتحام المنزل الكائن بضاحية «سيدى بوسعيد» بالعاصمة التونسية، وحسب روايتها لموقع «الجزيرة نت» يوم 16 أبريل 2008: «سارع أبو جهاد للخزانة واستل مسدسا، وأطلق النار نحو المقتحمين فارتدوا للخلف، فحاولت احتضانه لحمايته لكنه أبعدنى عنه وحاول حمايتى، وما لبث أن أصيب فسقط مسدسه، ولما همَ بالتقاطه مجددا تعرض لوابل من الرصاص من مسدسات وبنادق كاتمة للصوت من قبل أربعة مسلحين ملثمين».
وتضيف السيدة انتصار، أن أحد القتلة وجه البندقية نحو ظهرها، وأجبرها على الوقوف والانتحاء جانبا ووجهها باتجاه الحائط، وأوضحت أن خمسة مسلحين تناوبوا على التثبت من موته بإطلاق الرصاص عليه بعد موته، ثم دخل آخرهم غرفة النوم وأطلق النيران فى كل الاتجاهات، وتقول إن طفلهما نضال ابن العامين ونصف كان يصرخ باكيا، فطمأنها بكاؤه على أنه ما زال على قيد الحياة بعد اعتقادها بأنهم قتلوه، وتضيف: «غرقت فى دموعى على زوجى وابنى فصرخت بكل ما أوتيت من قوة، وقلت: كفى، كفى، وفى تلك اللحظة سمعت صوتا نسائيا ينادى المسلحين بالفرنسية يقول: تعالوا بسرعة، وسارعت إلى شرفة المنزل فور خروج المسلحين وتمكنت من عد 24 مسلحا ممن شاركوا فى جريمة الاغتيال».
كان السؤال، لماذا تقطع إسرائيل هذه المسافة الطويلة لارتكاب هذه الجريمة الشنعاء بقتل هذا القائد الفلسطينى الذى يسكن فى فيلا بتونس؟، والإجابة تأتى من ماضى وحاضر «أبو جهاد» على خريطة النضال الفلسطينى، فهو المولود فى الرملة بفلسطين يوم 10 أكتوبر 1935، ودرس فى جامعة الإسكندرية بمصر عام 1956، ومنها إلى السعودية ثم الكويت وفيها تعرف على ياسر عرفات وشاركه فى تأسيس حركة فتح التى بدأت الإعلان عن كفاحها المسلح فى أول يناير 1965، ثم انضمت «فتح» إلى منظمة التحرير الفلسطينية التى تأسست فى 28 مايو 1964.
أصبح «أبو جهاد» نائبا لقائد قوات الثورة فى منظمة التحرير، وانتقل من لبنان إلى تونس عام 1982 مع قيادات المنظمة وعلى رأسها ياسر عرفات ضمن قوات المنظمة التى غادرت لبنان إلى عواصم عربية وعالمية، ولما تفجرت انتفاضة الحجارة الفلسطينية عام 1987، كان هو عقلها المدبر ومخططها، ويذكر سليم نصار فى جريدة «الحياة اللندنية» يوم 24 أكتوبر 2015: «مع أنه كان يعيش فى تونس وينشط من فيلته إلا أنه مساعديه الكثر كانوا يوزعون توجيهاته وإرشاداته فى كل مكان فى فلسطين المحتلة»، ولهذا اتخذت إسرائيل قرار تصفيته.
وحسب صحيفة «معاريف» الإسرائيلية يوم 4 يوليو 1997، فإن الذين قاموا بتنفيذ عملية الاغتيال كانوا وحدات كوماندوز خاصة تابعة لهيئة الأركان الإسرائيلية، وهى الأقوى فى الجيش الإسرائيلى، وتم نقل المشاركين على متن أربع سفن، من بينها اثنتان نقلت عليهما مروحيتين، لاستخدامهما فى حالة الاضطرار لعملية إخلاء طارئة إذا حدث أى خلل أو طارئ غير متوقع، وكشفت «معاريف» أنه تم بناء فيلا فى إسرائيل مماثلة لتلك التى يسكن فيها أبو جهاد بتفاصيلها الدقيقة اعتمادا على عملاء لجهاز الموساد فى تونس، وتدرب فيها منفذو العملية، هذا بخلاف قيام عملاء الموساد بمراقبة الفيلا التى يقطنها أبو جهاد فى تونس لمدة شهرين، وشملت المراقبة كل شىء يتعلق بالداخلين والخارجين وأفراد عائلته وزرع أجهزة تنصت فى حجرة نومه إضافة إلى التنصت على هاتفه، وتم نقل الرشاشات والبنادق والقنابل التى سيتم استخدامها فى العملية على متن بارجة سياحية بغرض التمويه والتضليل، وظلت الباخرة راسية قبالة الشواطئ التونسية أكثر من أسبوع، ولما أذنت ساعة الصفر نقلت الأسلحة من مخازن الباخرة عند مطلع الليل.
ويكشف الصحفى الأيرلندى غوردون طوماس فى كتابه «انحطاط الموساد»، ترجمة، دكتور محمد معتوق، ما جرى فى 16 أبريل، مثل هذا اليوم، 1988، قائلا: «حين صدر الأمر بالتنفيذ، أقلع عدد من طائرات بوينج 707 من قاعدة عسكرية جنوبى تل أبيب، كانت واحدة تقل إسحاق رابين «رئيس الوزراء فيما بعد» وعددا من كبار الضباط الإسرائيليين، وكانت على اتصال دائم عبر لاسلكى سرى بفريق الاغتيال بقيادة عميل اسمه الرمزى «سورد»، كشفت إسرائيل عن اسمه فيما بعد وهو «ناحوم يوفال».
ومن موقع قرب الفيلا أعلن «سورد» عبر ميكروفون يعمل بحركة الشفاه أنه يسمع «أبو جهاد» وهو يصعد السلالم، ويذهب إلى غرفة نومه، ويهمس شيئا لزوجته، ويمشى على أطراف أصابعه إلى الغرفة المجاورة لتقبيل ابنه النائم قبل أن يمضى إلى مكتبه فى الطابق الأرضى، وكانت طائرة الحرب الإلكترونية وهى النسخة الإسرائيلية لطائرة الرادار الأمريكية «أيواكس» تلتقط هذه التفاصيل وتحولها إلى رابين فى طائرة القيادة وعند الساعة الثانية عشرة و17 دقيقة صباح 16 أبريل، أصدر «رابين» أوامره بتنفيذ العملية التى استغرقت خمس دقائق.