محمد أيمن

مصر بين الجاهزية الاستراتيجية وتقلبات المشهد العالمي: قراءة في موازين الردع والتحديات

السبت، 12 أبريل 2025 12:00 ص


في زمن تتقاطع فيه الزلازل الجيوسياسية مع الهزات الاقتصادية العالمية، تتجه الأنظار إلى مصر، دولة القلب في إقليم مضطرب، تسير على حافة التوازن وسط محاولات متكررة لإعادة رسم خرائط النفوذ وتفكيك المسلّمات. ليست هذه المرة الأولى التي توضع فيها القاهرة في عين العاصفة، لكن الجديد أن العالم ذاته بات يبحث عن موطئ قدم وسط الرمال المتحركة، بينما تُبقي مصر على تموضعها الاستراتيجي، عبر معادلة لا تهادن ولا تندفع.

القراءة المصرية للمشهد لا تقتصر على البعد الأمني أو العسكري، بل تتجاوز ذلك إلى رؤية شاملة للأمن القومي، تضع في اعتبارها الاقتصاد، والوعي الجمعي، والمعركة النفسية كأدوات ردع متكاملة. تلك العقيدة ليست وليدة ظرف طارئ، بل تأسست منذ أكثر من عقد، حين بدأت الدولة في استيعاب حجم الاستهداف المركب، من الداخل والخارج، في آنٍ معًا.

في قلب هذه المعادلة، يظهر ما يمكن تسميته بـ"الصبر الاستراتيجي"، وهو نهج يُركّز على التريث المدروس، والاستعداد الدائم، دون الانزلاق إلى ردود فعل ارتجالية. فالرؤية المصرية تُبنى على تحليل دقيق لتحولات الإقليم وموازين القوى الدولية، خصوصًا مع تصاعد المخاوف من مشاريع تهدف إلى إعادة إنتاج النزاع الفلسطيني على حساب الجغرافيا المصرية، من خلال سيناريوهات التهجير وخلق واقع جديد على الأرض.

القاهرة، بما تمتلكه من ذاكرة تاريخية حادة، تدرك أن حدودها ليست مجرد خطوط مرسومة، بل سياق متراكم من التفاعلات السياسية والثقافية. من احتضانها لغزة عقب نكبة 1948، إلى إدارتها للملف الفلسطيني بمراحل متعاقبة، تؤكد الدولة أن أمنها القومي غير قابل للمساومة، دون أن تتخلى عن مواقفها الثابتة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته.

لكن الساحة لا تُختزل في الإقليم فقط. فالعالم يعيش لحظة فارقة، يتصدرها الصراع بين بكين وواشنطن، لا على شكل حرب تقليدية، بل في ميادين التكنولوجيا، والاستخبارات، والاقتصاد. الولايات المتحدة، التي صاغت العولمة، باتت اليوم أحد أبرز المتضررين منها، وتسعى لإعادة صياغة دورها، عبر سياسات حمائية وعقوبات جمركية غير مسبوقة، طالت الصين ودولًا أخرى، بينها مصر.

هذا التبدل الاستراتيجي لا ينعكس فقط على العلاقات الثنائية، بل يعيد تشكيل مفهوم التحالفات ذاتها. فمصر، كقوة إقليمية، تُدرَج اليوم في حسابات واشنطن ليس فقط كسوق واعد، بل كلاعب حيوي في ضبط تمدد بكين في الشرق الأوسط. في هذا الإطار، تتسع طاولة التفاوض لتشمل ملفات تتجاوز التجارة، إلى ترتيبات أمنية وفنية، في محاولة لإعادة صياغة التوازن داخل منطقة تغلي.

وعلى وقع هذه الحرب الاقتصادية، يعود دونالد ترامب إلى الواجهة بخطاب عنيف، يختزل الأزمة في معادلات جمركية، وقرارات أحادية، سرعان ما تصطدم بالواقع الأميركي الداخلي. فقد مثّلت قراراته بتجميد رفع الرسوم على صادرات عشرات الدول صدمة اقتصادية، انعكست على الأسواق، وأثارت احتجاجات واسعة، كاشفة هشاشة العقد الاجتماعي الأميركي، القائم على الربح الفردي.

الإصلاح الاقتصادي في جوهره ليس مجرد حسابات مالية، بل هو عملية مجتمعية معقدة تتطلب وعيًا جماعيًا، وإرادة وطنية، وقيم أخلاقية تُعزز التماسك. للأسف، يفتقر المجتمع الأمريكي لهذا النسيج الاجتماعي المتماسك، فالعلاقة بين الفرد والدولة تبدو كمجرد "عقد مادي"، يُقاس بالربح والخسارة.

بينما استطاع المصريون أن يتحملوا إجراءات الإصلاح القاسية بثبات أثار دهشة الجميع، لم يتمكن الداخل الأمريكي من الصمود أمام ضغوط اقتصادية جزئية. وهذا يكشف الفرق بين شعوب تمتلك عمقًا حضاريًا وروحيًا، وأخرى بُنيت على أسس مادية بحتة.

فكانت النتيجة رد صيني مضاد، وموجة جمارك متبادلة، أربكت الأسواق، وأفقدت المستثمرين الثقة. بل إن الأسواق الأميركية بدأت تشهد هروبًا واضحًا لرؤوس الأموال، خوفًا من فوضى اقتصادية يصعب احتواؤها.

الأخطر أن إدارة ترامب قد تلجأ للتصعيد الخارجي للهروب من أزماتها الداخلية، ما يضع العالم مجددًا أمام احتمالات الانزلاق. وفي هذه اللحظة الدقيقة، تتحرك القاهرة بهدوء واقعي، تحرص على تعزيز جاهزيتها الشاملة دون الانجرار إلى معارك لا تخصها.

في ظل التعقيدات المتراكمة على الساحة الدولية، تظل احتمالات توجيه ضربة عسكرية أمريكية مباشرة لإيران أقرب إلى التصعيد الإعلامي منها إلى الفعل الميداني. فواشنطن، رغم توتر العلاقة، تدرك أن أي تدخل عسكري قد يُفضي إلى تداعيات إقليمية ودولية يصعب احتواؤها، سواء من حيث الكلفة الاقتصادية أو طبيعة الرد الإيراني الذي قد يشعل جبهات متعددة في آنٍ واحد.

لكن المسار العسكري ليس هو الخيار الوحيد. فالإستراتيجية الأمريكية تميل في الوقت الراهن نحو احتواء النفوذ الإيراني عبر مقاربة مزدوجة: تفاوض حذر، وسعي دؤوب لتحييد طهران عن معسكر بكين وموسكو. إيران التي طالما رفعت شعارات العداء للغرب، كانت تاريخيًا أداة في لحظات فارقة، بدايةً من تفكيك الاتحاد السوفيتي، مرورًا بغزو العراق، ووصولًا إلى انهيار كابول.

من هذا المنطلق، لا ينظر الروس والصينيون إلى إيران باعتبارها شريكًا استراتيجيًا طويل الأمد، بل كعبء محتمل لا يجوز تركه ينفلت من السيطرة. فكلا الطرفين يعارض امتلاكها للسلاح النووي، ويخشيا من انزلاقها نحو الفوضى الشاملة، معتبرين أن وجودها الحالي يخدم معادلة توازن دقيقة لا ينبغي كسرها.

أما في الداخل الإيراني، فيبدو أن القيادة العليا، وعلى رأسها المرشد، باتت أكثر ميلاً للحفاظ على منظومة الحكم بأي ثمن، حتى لو استدعى الأمر التراجع عن بعض المكاسب الإقليمية أو تقليص أدوات النفوذ. فاستمرارية النظام هي الثابت الوحيد في حسابات طهران.

وفي المقابل، تبقى تحركات دونالد ترامب مرهونة بنمط شخصي لا يخضع لحسابات مؤسسية دقيقة. فتكرار اتخاذ قرارات كبرى دون تهيئة الأرضية السياسية أو تقديم بدائل مستدامة، يجعل من سياساته قصيرة الأجل وعُرضة للتراجع بمجرد تغيّر الإدارة.

أمام هذا المشهد المعقّد، على القوى الإقليمية الفاعلة أن تضع كل السيناريوهات المحتملة نصب أعينها، وأن تقرأ ما بين سطور الصراعات الدولية. فالفهم العميق لما يجري، لا يقل أهمية عن امتلاك أدوات القوة.

ما بين احتدام الصراع العالمي، وانفتاح الجبهات الإقليمية، تتحرك مصر بسياسة واقعية تتفادى التصعيد غير المحسوب، دون أن تغفل عن ضرورة رفع كفاءة جاهزيتها الشاملة. فالمعادلة اليوم لم تعد مقتصرة على التسلح أو بناء الجيوش، بل على امتلاك أدوات التأثير الناعم، والتحكم في مسارات الاقتصاد، وبناء منظومة أمن قومي قادرة على امتصاص الصدمات.

في عالم باتت فيه القوة تُقاس بمدى القدرة على امتصاص الصدمات، لا بإطلاق الرصاص، تبدو مصر أمام اختبار تاريخي جديد: الحفاظ على توازنها وسط زلازل العالم، وصياغة دورها كرقم فاعل، لا تابع، في معادلة إقليمية ودولية لم تكتب فصولها بعد.

 

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب