
«أغادر مصر بعد ثلاثة أيام مؤثرة، رأيت فيها نبض القلوب فى ترحيبكم الكريم فى قوة تعاوننا، فى الدعم الذى نقدمه معًا لأهالى غزة. فى العريش، حيث يقاوم الأمل الألم. شكرًا لكم. تحيا الصداقة بين شعبينا».. هكذا عبّر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، عبر حسابه الرسمى بموقع التدوينات «x» فى سماء عودته إلى باريس بعد ختام زيارته لمصر، والتى كانت حافلة بالفعاليات والمباحثات والتصريحات المهمة.
تلك الزيارة المتقنة بعناية فى كل محاورها ورسائلها؛ فبعد وصول طائرة "ماكرون" الرئاسية مباشرةً مساء الأحد الماضى للقاهرة، زار الرئيس الفرنسى المتحف المصرى الكبير، وتفقد أجنحته وقطعه الأثرية وقاعات العرض، قبل أن يصحبه الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى جولة بالقاهرة التاريخية وتحديدًا فى منطقة خان الخليلى، وسط حشود المواطنين الذين التفوا حول الرئيسين لالتقاط الصور التذكارية معهما وسط هتافات التأييد للرئيس السيسى والترحيب بالضيف الفرنسى؛ عقبها جلسة مطولة بين الرئيسين فى أحد المطاعم التاريخية بالمنطقة العتيقة حيث تناولا العشاء.
المباحثات بين الرئيسين، كانت مثمرة للغاية، وشملت الاتفاقيات؛ حيث تُوّجت بترفيع العلاقات بين القاهرة وباريس إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، كما تم توقيع العديد من مذكرات التفاهم بين البلدين، فى المجالات الصحية والتعليمية والبحث العلمى والتعاون الفنى والمالى والمشروعات الاستثمارية، بالإضافة إلى توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء 100 مدرسة فرانكفونية فى مصر.
انضم عاهل الأردن الملك عبدالله الثانى إلى الرئيسين فى مباحثات قمة ثلاثية، خرجت بتصريحات معبرة عن توافق البلدان الثلاثة على رفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم وأية محاولة لضم الأراضى الفلسطينية، كما دعوا إلى عودة فورية لوقف إطلاق النار فى غزة وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل فورى وكامل للقطاع، مع تأكيدهم على دعم مؤتمر إعادة إعمار غزة الذى يتم الترتيب له لانعقاده بالقاهرة.
فيما يتعلق بالشق السياسى والدبلوماسى، شهدت الزيارة توافقًا بين الرئيسين السيسى وماكرون على ضرورة خفض التصعيد بالمنطقة وضمان سلامتها واستقرارها، وقال إنهم يثمنون جهود الرئيس السيسى لتحقيق السلام فى المنطقة، مؤكدًا رفض بلاده التهجير القسرى للفلسطنيين، ودعمهم الخطة العربية لإعادة إعمار غزة.
وفيما يتعلق بالشق الاقتصادى والاستثمارى، خرجت مصر من زيارة «ماكرون» بمكاسب عديدة، حيث وقعت الحكومة المصرية - على هامش الزيارة - على 9 اتفاقيات تمويلات ومنح بقيمة 262.3 مليون يورو بين مصر وفرنسا والاتحاد الأوروبى، لتنفيذ مشروعات ذات أولوية بقطاعات معالجة المياه والصرف الصحى والطاقة المتجددة والسكك الحديدية.
إضافة إلى ذلك، فإن الرئيس ماكرون أكد أن بلاده تتابع وتدعم العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولى وستدعم كل مشروعات الإصلاح، مجددًا التزام بلاده بمواصلة ومتابعة التعاون المالى لتنفيذ المشاريع ذات الأولوية لمصر، والتى تسهم فى تنميتها واستقرارها، وذلك عن طريق الاستثمار من قبل الشركات الفرنسية والمساعدة الثنائية الأوروبية.
كما كان للشق المتعلق بالتعاون الثقافى والفنى نصيب مهم من زيارة الرئيس الفرنسى، والذى يعد فى قلب العلاقة الثقافية الثنائية بين البلدين، حيث التقى عددا كبيرا من الفنانين لدعم هذه العلاقة، بالإضافة إلى المتاحف وفرق الباليه والأوركسترا.
وحول أزمة مياه النيل مع إثيوبيا، كان «ماكرون» حريصًا على تأكيده بأنه سيتم بذل قصارى الجهود لإيجاد حل للموضوعات الحساسة خاصة مياه نهر النيل الأساسية لمصر، وإيجاد حلول لتقاسم مياه النيل بشكل مُتفق عليه بين الدول المجاورة.
«ثبات المواقف المصرية الدولية وتصويتها فى الأمم المتحدة والوضوح والحزم التى تسير به على هذا الدرب»، كلها إشادات اتسمت بها تصريحات «ماكرون» عقب مباحثاته مع الرئيس السيسى فى قصر الاتحادية؛ وقال فى ختام كلمته المطولة: «ما يجمعنا مع الرئيس السيسى إن كان فى غزة أو أوكرانيا هو صوت واحد وهو صوت السلام، وما يجمع فرنسا ومصر أيضًا هو أنه ليس هناك ازدواجية فى المعايير، والموقف المصرى حول أوكرانيا قوى جدا وكذلك الموقف الفرنسى فى الدفاع عن غزة، فعندما ندافع عن السلام ندافع عنه فى كل الأنحاء والمناطق، وهذه هى المواقف التى تجمع مصر وفرنسا».
وبالعودة إلى ما قاله «ماكرون» عبر حساباته على السوشيال ميديا، فإنه بدا واضحًا أن الرجل تأثر جدًا بمشاهد الجرحى الفلسطينيين من النساء والأطفال والشيوخ، الذين تفقدهم فى مستشفى العريش، فى ختام زيارته لمصر؛ ويبدو أن هذه المشاهد أثرت فى عقل الرئيس ماكرون، على الرسالة التى تبثها وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية بشكل جعل من الضحية جلادًا، ومن الجلاد ضحية؛ بحسب ما وصفته مصادر مطلعة لـ«اليوم السابع».
جاءت زيارة «ماكرون» للعريش، للتأكيد على تضامن فرنسا مع الجهود المصرية الكبيرة فى استقبال ورعاية المصابين من أبناء الشعب الفلسطينى جراء العدوان الإسرائيلى الغاشم على قطاع غزة، حيث شملت الزيارة تفقد الرئيسين السيسى وماكرون، مستشفى العريش ولقاءهما عددا من الجرحى الفلسطينيين، لا سيما من النساء والأطفال، وكذا مركز الخدمات اللوجستية التابع للهلال الأحمر المصرى المخصص لتجميع المساعدات الإنسانية المقدمة من مصر وكل الدول الموجهة إلى قطاع غزة.
«ماكرون» استمع لشرح وافٍ من الدكتور خالد عبدالغفار، نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية ووزير الصحة والسكان، الذى استعرض أمام الرئيس السيسى والرئيس الفرنسى، الجهود التى تبذلها الدولة المصرية لتوفير الرعاية الصحية والعلاج اللازم للمصابين الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة، حيث تستقبل مصر نحو 107 آلاف فلسطينى، أجريت لهم الفحوصات الطبية اللازمة، كما تم تطعيم 27 ألف طفل فلسطينى، واستقبلت المستشفيات المصرية أكثر من 8 آلاف مصاب فلسطينى يعانون من جروح متفرقة، برفقة 16 ألف مرافق، كما تم إجراء أكثر من 5160 عملية جراحية، واستقبلت 300 مستشفى فى 26 محافظة بمصر المصابين والمرضى الفلسطينيين، بينما يتواجد حاليا مصابون فلسطينيون فى 176 مستشفى موزعين على 24 محافظة بمصر، مع توفير الإقامة والإعاشة لكل المرافقين لهم.
وفيما يتعلق بجهود الإسعاف المصرية، فقد تم تخصيص 150 سيارة إسعاف فى محافظة شمال سيناء لاستقبال الحالات القادمة عبر المعبر من الهلال الأحمر الفلسطينى، ثم توزيعهم على المستشفيات المصرية بمشاركة 750 مسعفا وسائقا.
كما أن إجمالى تكلفة الخدمات الطبية التى قدمتها مصر بلغت نحو 578 مليون دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى مليار دولار، لا سيما مع تحمل الدولة نفقات الإعاشة والاستضافة والإقامة، وأخذًا فى الاعتبار أن حجم المساعدات العينية التى تلقتها مصر من الدول لا يتجاوز 10 % من إجمالى التكلفة التى تحملتها منذ بدء الأزمة، كما خصصت وزارة الصحة 38 ألف طبيب و25 ألف ممرض بمختلف التخصصات للتعامل مع الحالات المرضية إلى جانب توفير العلاج اللازم للحالات المزمنة من القادمين من قطاع غزة.
غادر «ماكرون» العريش، وهو ينظر بفخر للشعب المصرى وللدولة والقيادة المصرية، التى تتحمل بشرف كل هذه التبعات على حدودها، وتدفع فاتورة حرصها على السلام والاستقرار فى منطقة ملتهبة، من مقدراتها وظروفها الاقتصادية الصعبة؛ فلم تزل طائرته الرئاسية داخل الأجواء المصرية حتى أشاد بـ«بنبض القلوب فى ترحيب المصريين الكريم وفى قوة تعاون البلدين، وفى الدعم الذى تقدمه مصر وفرنسا معًا لأهالى غزة»، ثم وصف زيارته للعريش بأنه رأى فيها الأمل يقاوم الألم!، وهى رسالة حقيقية ومعبرة يمكن أن تؤثر فى المشهد الإقليمى وتجعل العالم كله يستمع إلى صوت العقل «مصر»، لتجنب التصعيد الخطير فى منطقة مشتعلة.

الرئيس السيسي ونظيره الفرنسي