"موكب الحب الإلهي على دروب أورشليم"، مع إشراقة أحد الشعانين، المعروف بـ"أحد الزعف"، تتزين الكنائس بالأغصان الخضراء وتعلو الترانيم والصلوات في أجواء مهيبة تمزج بين الفرح والتأمل، هذا اليوم يُجسد لحظة دخول السيد المسيح إلى أورشليم كملك، ولكن لا كملوك الأرض، بل كملك متواضع على قلوب البشر، فاتحًا بذلك طريق الخلاص والفداء. في هذا الإطار، أضاء عدد من الآباء الكهنة الأبعاد الرمزية والطقسية لهذا العيد، مقدمين فهمًا روحيًا عميقًا لأحد أبرز أيام السنة القبطية.
طريق الحب السماوي
أوضح القس بطرس فؤاد، كاهن كنيسة الكوكبان الأنبا بيشوي والأنبا كاراس بمدينة النور وعضو مجلس كنائس مصر، أن الاسم الأصيل لهذا اليوم هو "دخول المسيح إلى أورشليم"، وهو يعبر بدقة عن جوهر الحدث، حيث دخل السيد المسيح المدينة المقدسة كملك روحي، رغم أن الجماهير وقتها أرادت أن تملكه ملكًا أرضيًا.
وأضاف القس بطرس فؤاد، في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن المشهد تزامن مع موسم عيد الفصح اليهودي، ما ساهم في توافد أعداد ضخمة من الحجاج إلى أورشليم، وكثير منهم كانوا قد سمعوا عن معجزة إقامة لعازر، بعد أربعة أيام من الموت، التي هزت المدينة قبل شهور قليلة، والتي يمكن اعتبارها أكبر معجزة أقامها المسيح، هذا الأمر جعل من ظهور المسيح حدثًا استثنائيًا، استقبله الناس بأغصان النخيل، معتقدين أنه الملك المنتظر، ولكن المسيح كان يتمنى أن المُلك هو مُلك قلبي وليس أرضي، فلذلك غادرهم.
وأشار إلى أن السيد المسيح، في اتضاعه العميق، اختار أن يدخل المدينة راكبًا أتانًا وجحشًا، في مشهد يحمل رمزية مزدوجة: فالأتان تمثل جماعة اليهود، بينما الجحش يرمز إلى الأمم، في إشارة واضحة إلى اتساع رسالته لتشمل الجميع، كما أن ركوبيه على الإثنين بالتبادل يعكس رحمته وحنانه، حتى تجاه الحيوانات، وحرصه ألا يُفصل الجحش عن أمه.
واستكمل القس بطرس أن طريقة الاستقبال - من فرش الثياب على الأرض ورفع أغصان النخيل - لها جذور في العهد القديم، وتُستخدم عادة لاستقبال الملوك المنتصرين، إلا أن المسيح، وهو الذبيحة الحقيقية، أعاد في ذهن الشعب صورة خروف الفصح الذي كان يُشترى ويُزف على الحمار وسط ترانيم الأطفال، ويُذبح بعد أربعة أيام يوم عيد الفصح، هكذا عبر المسيح، بصورة رمزية، أنه هو الذبيحة السماوية التي ستُقدَّم على الصليب يوم الجمعة لخلاص البشرية.
يوم طقسي فريد في السنة الكنسية
أما القس مقار ليشع، كاهن كنيسة السيدة العذراء مريم بالقصيرين، فيُسلّط الضوء على الطابع الطقسي الفريد لهذا اليوم في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث يتميز بثلاث علامات لا تتكرر في باقي أيام السنة.
وحسب ما أوضح القس مقار ليشع، في تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، أن أول هذه العلامات هي دورة الشعانين، حيث يُحمل أغصان النخيل ويتجول بها داخل الكنيسة مرورًا بـ 12 موضعًا تمثل أيقونات العذراء والقديسين والملائكة، في رمزية جميلة لاتحاد الكنيسة المجاهدة على الأرض مع الكنيسة المنتصرة في السماء، وخلال الدورة، تُقرأ المزامير والإنجيل أمام كل موضع، في تذكير بسير الأبرار وأمجادهم.
وقال القس مقار، إن العلامة الثانية هي أن يُقرأ في هذا اليوم أربعة فصول من الأناجيل، إذ إن حادثة دخول المسيح إلى أورشليم مذكورة في جميع البشائر، وهو ما يرمز إلى شمولية الرسالة الإلهية لكل جهات العالم: شمالًا، جنوبًا، شرقًا وغربًا، وكأن المسيح يدخل كل قلب، في كل مكان.
أما العلامة الثالثة، فهي صلاة الجناز العام، التي تُقام بعد التناول مباشرة، استعدادًا لـ أسبوع الآلام، وخلال هذا الأسبوع لا تُقام صلوات جنازات، بل تكتفي الكنيسة برش ماء الجناز على الجميع، في تأكيد على وحدة الألم والمشاركة مع المسيح في آلامه في هذه الأيام.
في النهاية، يأتي أحد الشعانين ليجمع بين الفرح والرجاء، بين موكب الملك المنتصر والمتواضع، وبين أغصان النخيل وطريق الجلجثة "طريق الآلام / الخلاص"، إنه يوم إعلان الحب الإلهي الذي لا يسعى لمُلك على العروش، بل لمُلك أبدي على القلوب.