اسمع القارئ و هو يقول مندهشا "إتحاف".. ماذا يعني هذا اللفظ الذي يتصدر العنوان؟
نحن نعرف كلمة "متحف" و كلمة "تحفة" و نعرف ايضا فعل "يتحف".. و لكن لم نألف لفظ "إتحاف"!
في الحقيقة ، دعوني افصح لكم ان اختياري هذا اتي من فرط اعجابي بعنوان كتاب وقع في يدي عن طريق الصدفة ورب صدفة خير من ألف ميعاد..
هذا الغلاف كان قد وصلني من زميل قابلته - أيضا بالصدفة - في ندوة عن "تطوير التعليم في مصر"، و شاركني مشكورا الاطلاع علي كتاب مدرسي وحينما دققت النظر في حافظته المتآكلة من فرط القدم ، وقعت عيني علي العنوان المكتوب بفنون الخط الرقعة البديع " إتحاف أبناء العصر بذكر قدماء ملوك مصر" بل و قرات علي الغلاف تحت العنوان جملة "قررت نظارة المعارف العمومية أن تطبع هذا الكتاب على نفقتها وتجعله مرجع دراسي"
و فورما ان قراءت هذه الكلمات، " استشعرت من بين حروفها عقل الواعي وفكر و رؤية مستنيرة و من خلفهم إرادة لضرورة احكام الروابط بين الابناء و الاباء مهما طال الزمن و حتمية ادراك النشء لعظمة صنيعة الاجداد .
كان هذا الكتاب مقررا من نظارة المعارف عام ١٣٣٥ هـ /١٩١٦ م علي طلبة المرحلة الإبتدائية.
تاثرت جدا بغلاف كتاب التاريخ و بعنوانه الذي وجدته مبهجا و مؤثرا، فدفعني شغفي بالشان التربوي و التثقيفي المصري في زمننا هذا، ان اتواصل مع زميلي و اطلب منه ان يحضر لي نماذج اخري لمقررات التاريخ من هذه الحقبة التي كانت أيضا محفوفة بالمخاطر السياسية على خلفية الحرب العالمية الأولى وضغط القوى الخارجية على مصر والتي أسفرت عن ثورة ١٩١٩، إلا أن القائمين على منظومة التعليم المصرية حينذاك كانوا على دراية بكيفية تقديم تاريخ امة كبيرة و تاهيل من يقوم بتدريسها بهدف تكوين شخصية من يتلقاها من الأبناء في الفصول المدرسية..
فتكرم الزميل و أرسل لي ثلاث كتب اعتبرهم "درر نفيثة"لا تقدر بثمن !
حينما امسكت بكتاب منهم و قرات عنوانه "البهجة في تاريخ مصر والأمة العربية" فاذا بابتسامة تلقائية ترتسم علي وجهي و كنت علي يقين انه سيكون ذلك الحال لكل من يطَّلِع علي الكتاب. و بعد ثواني معدودة من التدقيق، وجدت ان المؤلف يُدعى حضرة السيد أفندي عزمي وهو من مدرسي مدرسة الناصرية و هو نفسه مؤلف كتاب " إتحاف أبناء العصر بذكر قدماء ملوك مصر".
و استزدت من الشعر بيتا حينما امسكت بكتاب اخر طُبع أيضا في مطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر عام ١٣٣٢ هـ ١٩١٤ م وعلى غلافه عنوان "الدروس التاريخية للمدارس الثانوية" ووجدت ان مؤلفه حصل علي شهادته العليا من جامعتي نوتن هام ومانشستر بإنجلترا وانه مدرس التاريخ بالمدرسة السعيدية بالجيزة للصف الأولى ثانوي.
و لترسيخ الهوية المصرية لدي النشء إبان ثورة ١٩١٩م، قررت نظارة المعارف العمومية تدريس كتاب بعنوان "صفوة تاريخ مصر والدول العربية" بمدارسها الإبتدائية وأن تؤول حقوق الطبع للمؤلفين: الشيخ أحمد الإسكندري سليم حسن أفندي، عالم الاثار ذو الشهرة الواسعة, عمرو الإسكندري أفندي و الميجر سافيج، على أن يتم طبع الكتاب بمطبعة المعارف بشارع الفجالة بمصر وجاء ذلك بالفعل في نفس عام الثورة أي عام ١٣٣٧ هـ ١٩١٩ م
أما الكتاب الذي اثار دهشي هو تلك الذي يحمل عنوان "دروس التهذيب التاريخية لمدارس روضة الأطفال" و الموجه للمعلمين المسؤولين عن روضة الأطفال.. نعم معلمين روضة الأطفال و كانت الطبعة الاولي صدرت عن وزارة المعارف العمومية عام ١٣٤٢ هـ ١٩٢٣ م .
اتت هذه الكتب التي طبعت في القاهرة منذ قرن من الزمان تقريبا كالمرآة لهذا الزمن، مرآة تعكس اناقة الفكر و وسامة عقل القائمين علي بناء الانسان المصري حينذاك، بناء عقله و تهذيب نفسه وصون مجتمعه من خلال إحكام منظومة التربية والتعليم و الارتقاء المستديم بمستوي المعلم ..
و هنا، لا تعلوا كلمات فوق مطلع قصيدة أمير الشعراء "أحمد شوقي" في افتتاح حفل مدرسة المعلمين العليا عام ١٩٣٢م
قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي .. يبني وينشئ أنفسا وعقولا
سبحانك اللهم خيرَ معلِّم .. علّمت بالقلم القرونَ الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته .. وهديته النور المبين سبيلا
اتوقف لحظة بعد قراءة هذه الابيات لاتساءل .. هل يمكن ل"مهمة" المُعلم التاسيسية و الجوهرية للابناء ان تكتمل دون اسرة سوية و بيت منضبط ؟
ماذا عن حالنا اليوم في تكوين نشء ؟ نشء نلمس فيه ـ للأسف ـ انحلال سلسلة القيم و انفراط عقد الزمن الذي طالما تحلت به مصرنا الحبيبة..
المعلم ام الاسرة؟ من المسؤول عن تحلل روابط الفكر و الروح بين الماضي و الحاضر؟ من المسؤول عن إبهات صور حواديت الأباء و الاجداد في كتب و مراجع التاريخ في زمننا هذا؟ من المسؤول عن ضياع التراث الشفاهي و قيمة الكلمة و اندثارها و هي قوام الهوية؟
عزيزي القارئ..
كلمات كثيرة من لغتنا الجميلة تَعَرضت لرياح عتية، كنست حروفها و أَودت بها في غيابات الجب .. كلمات ضلت طريقها في زمن العولمة و عصر الرقميات الذي اخذ من رصيدها اكثر مما ازادها، فعلي سبيل المثال، الكلمات البسيطة التي طالما ضبطت إيقاع الأيام و أدخلت عليها الونس و الانس، مثل "صباح الخير" و "مساء الخير"، مثل "شكرا" و "آسف"، مثل "عيب" و "مايصحش".. صاغت النفوس و هذبت الاخلاق و شكلت المجتمعات حتي أصبحت جزء من التعبيرات الشعبية، فمن فِقهِها، قال أسلافنا " اللي ما تصبحه و تمسيه ما تعرف اللي جري فيه" و "إن طلع العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب" و "حتى تكون أسعد الناس، اجعل الفرح شكراً"
و هناك كلمات اخري تعرضت للمغايرة في طبيعتها، علي سبيل المثال كلمة "السبوع " التي اصبحت "العقيقة" ، بل و مؤخرا يُنتقَد إستخدام لفظ "السبوع" الذي اصطحبنا اكثر من ستة الاف عام بفلسفته الراقية و واقعه المصري الاصيل و اتهمناه انه غير ديني!
و قد اضطرت دار الإفتاء المصرية، في وقت سابق على الرد علي سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي، يقول: «هل عمل السبوع وتوزيع الحلوى وغيرها من الهدايا عند الولادة أو في اليوم السابع عامة حرام أم مكروه» و كان الرد واضح في هذا الشأن حيث قام المختصين بالتذكير بان القدماء المصريين كانوا يعتقدون أن المولود الجديد يُصبح في امان بعد الأسبوع الأول من ولادته و يكون قد تعدي مخاطر الخروج من رحم امه الي دنيا الحياة، فكانوا حينها يحتفلون بصلابته و قوته و يقيمون الافراح بهذه المناسبة لإشاعة البهجة و السرور و قد ظل السبوع عادة مصرية ضاربة في جذور المجتمع حتى يومنا هذا،ن غير ان في السنوات الأخيرة، أصبحت كثير من الاسر المصرية تستعيض بكلمة "عقيقة" لهذا الاحتفال المصري الأصيل!
كلمات اخري تم استبدالها بنسختها الأجنبية، علي سبيل المثال، "يأڤور" او "يتنشن".. غير ان هذه الكلمات يمكننا اعتبارها إضافات لغوية ونوع من الاستمرارية لاحد سمات الشخصية المصرية القادرة دائما و ابدا علي استيعاب الآخر كما قال جمال حمدان في كتابه :"شخصية مصر" و ان دل ذلك علي شيء فانه يدل علي قوة العامية المصرية القادرة علي تلوين ما يعجبهم من كلمات اجنبية بصبغتهم ذات الوصفات السحرية و ادراجها في تعبيراتهم اليومية و حتي في طريقة تفكيرهم . . فحينما ينطقوها في احياء القاهرة الشعبية، تذوب في لغتهم ولا يعوا انها "مستوردة" لانهم و بمنتهي التلقائية ابتلعوها حتي أصبحت جزء اصيل من معجمهم اللغوي و إرثهم الشفاهي لأبناءهم.
عود علي بدء.. "إتحاف الأبناء" هذا المصطلح الذي جاء في عنوان كتاب التاريخ المقرر عام ١٩١٦ لهو الآن ـ و نحن علي بعد قرن من الزمان من هذا الاصدار ـ مهمة صعبة و معقدة للغاية!
عزيزي القارئ..
أسئلة كثيرة تتسارع في وجداني، مثلي مثل كثير من الذين يعيشون نصف عمرهم الثاني..
أأخطأنا في تربيتنا للابناء؟
أأخطأنا في اختياراتنا في النصف الأول من حياتنا؟ أيجب علينا تحمل مسؤولية هذاه الاختيارات و الاستمرار في بوتقة "الصورة المصدرة" او الاقدام علي "تعديل مسار" وفقا لما حابانا الله من خبرات حياتية و مكتسبات روحانية؟
و يبقي السؤال الذي أوجهه للوزارت القائمة علي ترسيخ منظومة الهوية و الوطنية و سعادة و استقرار شباب هذا المجتمع.. كيف نثير شغف/ اندهاش/ اعجاب/ الأبناء لتذوق حلاوة الدنيا؟
كيف نقيم حوار تلقائي و طبيعي و انساني مع الأبناء.. بعيدا عن مقايدات شراء الهاتف و الثياب و السيارة و بعيدا عن المظاهر الذي غالبا ما يقع الاهل في فخ توفيرها للابناء مثل "مشوار الساحل" في الصيف و الذي اصبح "براند" و كناية عن الوجود المجتمعي في عيون هؤلاء الأبناء الذين فضلناهم علي انفسنا طوعا و لكن خطأً في الأصول التربوية للاسف!
كيف نعلم الأبناء القيم الإنسانية و ان القلب أبصر من العين و ان نبعدهم عن "آفة "البلادة/انعدام الإحساس" و نقيهم شر الانانية و ان نعالجهم من آفاة العصر و هي حب المظاهر و نهم المال و السلطة؟
و أخيرا و في ختام سردي هذا، ورغم أني أعرف أن هناك أسف كبير يقطُن داخل أعماق كل رب اسرة تجاه نفسه التي أرهقها بالسعي في درولب الدنيا و الطرقات الخازلة لارضاء من حوله وأعرف أيضا أن عدم التقدير من الأبناء يزيد الألم النفسي إلا إنني اتعشم في عدالة ميزان السماء و يبقي لي أمل في مجتمع افضل بالتعليم و بمنظومة ثقافية تربوية تدرء عنه الجهل و تقيه مخاطر الفقر!
قال مصطفى محمود قبل عقود طويلة " لا نملك أكثر من أن نهون على بعضنا الطريق" و ارجو منك عزيزي القارئ قبول من يخاطبك بالعاطفة ..فلا تُعَجِزه بالمنطق و دَع لروحه متنفسها.. فالاختلاف في مكاييل العقل و القلب لا يفسد للـ"حياة" قضية..
و للحياة بقية..