حسام الدين حسين

شعرة معاوية فى قراءة التاريخ.. كيف نستخدم المنهج العلمى؟

الأربعاء، 05 مارس 2025 04:27 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لن أخوض فى أزمة مسلسل "معاوية" ففى نهاية المطاف هو عمل فنى يحمل وجهة نظر صانعيه، ولكنى سأتوقف عند الدراما فى القصة، والتى رغم مرور 1400 عام مازلنا جزءا منها، بل وحولنا الدراما إلى فيلم رعب تعجز هوليوود وبوليوود وموليوود عن إنتاج مثيل له بفضل الطائفية البغيضة والجهل أحيانا.

فى زمنٍ تتصاعد فيه الدعوات لإعادة قراءة التاريخ الإسلامى بعيداً عن الصراعات الطائفية والمذهبية، تبرز شخصية معاوية بن أبى سفيان كأحد أكثر الرموز إثارةً للجدل. مؤسس الدولة الأموية، الذى حوَّل الخلافة إلى مُلكٍ وراثي، يُوصَف فى الأدبيات السنية كـ"كاتب وحي" و"حكيم السياسة"، بينما ترسمه الروايات الشيعية بصورة المتمرد على شرعية على بن أبى طالب.
لكن كيف نقرأ سيرته بمنهجية علمية تُحاكِم الوقائع دون انحياز؟ الإجابة تبدأ بفكِّ تشابُك الروايات التاريخية، والغوص فى سياقات القرن الأول الهجرى بكل تعقيداته. 

بحسب المصادر السنية، مثل تاريخ الطبرى (ت. 310 هـ) و"الكامل فى التاريخ" لابن الأثير (ت. 630 هـ)، وُلد معاوية فى بيئةٍ أرستقراطية بمكة، حيث كان والده أبو سفيان زعيمًا لقريش. تحوُّله إلى الإسلام بعد فتح مكة (8 هـ) مكَّنه من تولى ولاية الشام لاحقًا، وهو المنصب الذى استغله لبناء نفوذٍ عسكرى واقتصادي، تمهيدًا لصراعه مع على بن أبى طالب بعد مقتل عثمان بن عفان.
أما المصادر الشيعية، كـ"مقاتل الطالبيين" للأصفهانى (ت. 356 هـ)، فتُرجع أسباب الصراع إلى "الغدر" و"الانقلاب على الشرعية"، مستشهدةً برفض معاوية مبايعة على بعد استشهاد عثمان، واندلاع معركة صفين (37 هـ)، التى انتهت بتحكيمٍ اعتُبِرَ فى الأدبيات الشيعية "مؤامرةً لنزع الشرعية عن علي". لكنّ باحثين معاصرين، مثل الدكتور عبد العزيز الدورى فى كتابه "النظم الإسلامية"، يشيرون إلى أن الصراع كان سياسيًّا بالأساس، مرتبطًا بتحالفات القبائل وتوزيع الثروات، وليس مجرد خلافٍ ديني. 

لا يمكن فصل شخصية معاوية عن سياق عصره: بيئةٌ تخلط بين القيم القبلية والإسلامية، وتتنافس فيها مراكز القوى (الكوفة، الشام، مصر) على الهيمنة. هنا برع معاوية فى توظيف آليات السلطة ببراجماتيةٍ مذهلة: استخدم "العطايا" لشراء ولاءات القبائل، وفقًا لابن خلدون فى "مقدّمته"، ما أدى إلى تحوُّل الولاء من "الشرعية الدينية" إلى "المنفعة المادية". وفى كتاب "الأمويون: صناعة التاريخ المنسي" للباحث جورج بوست، يُشار إلى أن معاوية روَّج لسردية "الثأر لعثمان" عبر خطباء مُأجَرين، وحوَّل دماء عثمان إلى رمزٍ سياسى لتعزيز شرعيته. كما شكَّل تحالفات عابرة للحدود، وفقًا لدراسات المؤرخ هيو كينيدي، حيث دمج بين النموذج البيزنطى الإدارى والإسلامي، ما جعله الأقدر على توحيد الدولة بعد الفتنة. 

يُعدُّ تنصيب ابنه يزيد وليًّا للعهد (56 هـ) نقطةَ تحوُّلٍ فى التاريخ الإسلامي، حيث تحوَّلت الخلافة إلى إمبراطوريةٍ وراثية. يرى الدكتور محمد عمارة فى كتابه "معاوية فى الميزان" أن القرار كان "خيارًا واقعيًّا لضمان الاستقرار"، بينما يعتبره الدكتور رضوان السيد فى "الإسلام المعاصر" "انقلابًا على مبدأ الشورى". لكنّ الوقائع التاريخية تُظهر أن الأنظمة الوراثية كانت سائدة فى الإمبراطوريات المجاورة (كفارس وبيزنطة)، وأن معاوية – بحسب رسائله إلى الحسن بن على – قدّم نفسه كـ"حافظٍ لوحدة الأمة"، حتى لو اضطر لاستخدام القوة، كما فى معركة كربلاء (61 هـ). 

كل ذلك من تناقضات فى الروايات يجعل من الضرورى فى القرن 21 أن نضع المنهج العلمى لقراءة التاريخ أمام أعيننا ، وتحت مجهر العقل وهو ما يدعونا كمواطنين أن نتعرف ولو على بعض الأفكار من المنهج العلمى لدراسة التاريخ، خاصة أثناء تناولنا للشخصيات الجدلية فى التاريخ.

فى العقد الأخير، حاولت دراساتٌ غربية وعربية، مثل أبحاث المؤرخة باتريشيا كرون، تفكيكَ الأسطورة عبر مقاربةٍ نقدية: نقشٌ حجرى فى حمامات شرق الأردن، يعود للعصر الأموي، يذكر اسم "معاوية أمير المؤمنين"، يؤكد أن شرعيته كانت مُعترفًا بها فى أطراف الدولة. كما يكشف تحليل روايات الطبرى – التى كُتبت فى العصر العباسى – أنها قدّمت معاوية كـ"شرٍّ ضروري" لتبرير شرعية العباسيين، وفقًا لدراسة الدكتور خليل إينالجيك. وتشير عالمة الآثار سوزان آلستون إلى أن نظام الحكم الأموى كان امتدادًا لبنى اجتماعية قبلية، حيث تحالف معاوية مع النخب المحلية فى الشام لتعزيز سلطته.

التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي، بل هو حقل معرفى يتطلب أدوات نقدية لفك شفراته وتحليل سياقاته. ومع تصاعد الجدل حول إعادة قراءة التاريخ، خاصة فى السياقات العربية والإسلامية، بات من الضرورى تطبيق منهجية علمية تتعامل مع النصوص والأحداث بموضوعية، بعيدًا عن الانحيازات الأيديولوجية أو الطائفية.. وهنا بعض القواعد التى قد تساعدك فى تكوين صورة أولية موضوعية منطقية.

أركان المنهج العلمى فى قراءة التاريخ
1. النقد المصدرى
يبدأ الفهم العلمى للتاريخ بتحليل المصادر الأولية (ككتب السيرة، والطبقات، والفتوح) وفحص مصداقيتها. فمثلاً، روايات المؤرخين الأوائل مثل الطبرى أو ابن الأثير ليست محايدة دائمًا، إذ تأثرت بسياقاتها السياسية والمذهبية. هنا، يُطرح سؤال: كيف نتعامل مع روايات متناقضة عن معاوية فى المصادر السنية والشيعية؟ الجواب يكمن فى مُقارنة النصوص، وتتبع سلاسل الرواة، وتحليل دوافع المؤرخين. 

2. السياق التاريخي
يجب تفسير أفعال الشخصيات ضمن سياقها الزمني. فمعاوية، الذى حكم فى بيئة تلت حروب الردة والفتوحات، اتخذ قرارات كتعيين ولاة من عشيرته أو تحويل الخلافة إلى مُلك وراثي، لا تُفهم إلا بدراسة طبيعة السلطة فى القرن الأول الهجري، حيث كانت القبلية والتحالفات العسكرية تلعب دورًا محوريًا. 

3. الابتعاد عن الأحكام المسبقة
تُحذّر المنهجية العلمية من إسقاط الحاضر على الماضي. فوصف معاوية بـ"الخير" أو "الشر" بناءً على انتماءات حديثة يُعدّ انتهاكًا لموضوعية البحث. بدلًا من ذلك، يُفضَّل تحليل سياساته الإدارية (كإنشاء الدواوين أو النظام البريدي) وأثرها على استقرار الدولة. 

4.الاستعانة بالعلوم المساعدة
  مثل علم الآثار وعلم النقوش، التى قد تُقدم أدلة مادية تُكمل الصورة النصية. فالنقوش الأموية فى قصور الشام مثلًا تُظهر جانبًا من رمزية السلطة فى عهد معاوية.

فى العقد الأخير، حاولت دراساتٌ غربية وعربية، مثل أبحاث المؤرخة باتريشيا كرون، تفكيكَ الأسطورة عبر مقاربةٍ نقدية: نقشٌ حجرى فى حمامات شرق الأردن، يعود للعصر الأموي، يذكر اسم "معاوية أمير المؤمنين"، يؤكد أن شرعيته كانت مُعترفًا بها فى أطراف الدولة. كما يكشف تحليل روايات الطبرى – التى كُتبت فى العصر العباسى – أنها قدّمت معاوية كـ"شرٍّ ضروري" لتبرير شرعية العباسيين، وفقًا لدراسة الدكتور خليل إينالجيك. وتشير عالمة الآثار سوزان آلستون إلى أن نظام الحكم الأموى كان امتدادًا لبنى اجتماعية قبلية، حيث تحالف معاوية مع النخب المحلية فى الشام لتعزيز سلطته.

الجدل حول معاوية ليس سجاليًّا؛ بل هو اختبارٌ لقدرتنا على قراءة التاريخ بوعي، كما علينا أن نعى أن إعادة قراءة التاريخ بمنهج علمى لا تعنى هدم الرموز، بل سعيًا لفهم أعمق لتعقيدات البشر والسلطة. وفى حالة معاوية، يكشف النقاش عن حاجة دائمة لمراجعة المصادر، وفك الاشتباك بين التاريخ كـ"حقيقة" والتاريخ كـ"رواية". ربما تكون الإجابة الأهم هى قبول أن التاريخ ليس أبيضَ ولا أسود، بل ظلالٌ من الرمادى تنتظر مَن يكتشفها بعقلٍ نقدي.

كل ما سبق يحيلنى لمشهد شهير من مسلسل (الستات ما يعملوش كده) بين سعاد نصر ويونس شلبي.. تسأله فيه عن حبل منشر الغسيل اللذى شبهته بشعرة معاوية…
لكن يونس شلبى يسألها جاهلا (مين معاوية)؟

الخلاصة؟ التاريخ ليس "حبل غسيل" نعلق عليه غسيلنا ، بل نهرٌ جارٍ نستمد منه دروسًا لعبور حاضرنا. ومعاوية – بكل تعقيداته – ليس مجرد "شعرة" فى هذا الحبل، بل خيطٌ فى نسيجٍ ضخم نسميه "الإنسانية". ربما كان يونس شلبى محقًّا فى جهله بمعاوية؛ فالمشكلة ليست فى "من يعرف"، بل فى "كيف يعرف؟

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة