الرهان على العنوان، وما وراء ذلك تفاصيل. فلسطين أبقى من العدوّ والصديق، وإن زلّت قدمها على السكّة؛ فإنها تتعثّر ولا تسقط، وتمرض ولا تموت. يُطوّقها المُحتل من كل حدب، ويخذلها بعض بَنيها بحُسن نيّة أو سوء طويّة؛ لكنها باقية ما بقى الزعتر والزيتون، على ما يقول الفلسطينيون دوما، وأثبتت الوقائع لسبعة عقود ويزيد.
والدخول للحدث من جهة تقديم الكُلّى على الجزئى؛ ينبعُ من طبيعة الظرف الراهن، وما يُلقيه من ضغوط ثقيلة على الداخل المأزوم، والحاضنة اللصيقة. وليس المعنى أن شيئًا أقل أهمية من الآخر بين مُداولات القضية الفلسطينية؛ إنما أن العُقدة المُستحكمة تفرض التدرج فى فكّها، وتحدّ الحدود الفاعلة إسنادًا وتقويمًا، وترتب المواقع بين جمهرة الداعمين؛ بمعزل عن الدعايات وحملات العلاقات العامة.
لفلسطين عاصمة مادية واحدة، كانت وستظل فى القدس الشريف؛ لكن عاصمتها المعنويّة ما غادرت القاهرة يومًا. تحمّلت مصر لصالح القضية ما لم يتحمّله غيرها، وضُغِط على أعصابها بكل صور القسوة والتزيُّد والمناطحات الفجّة، وادّعى البعض لأنفسهم أدوارًا غير حقيقية، ولعب آخرون فى إعدادات الفصائل بما عقّد الصراع وخصم من النضال، ومرّة بعد أخرى يعودون من المغامرات إلى أرض الواقع، ومن أوهام الأيديولوجيا والمال وألاعيب الصغار، إلى حقائق يُؤسِّس لها الكبار، ويُسيّدونها بالقول والممارسة.
أمس، انعقدت القمّة العربية غير العادية بدعوة من مصر. مُنِحَت اسم «قمة فلسطين»، وخُصِّصت بالدرجة الأكبر لقطاع غزة. سؤالها الأهم ينصرف إلى تثبيت وقف إطلاق النار، ومنه إلى الإغاثة وإنفاذ المساعدات الضرورية لحياة مليونىّ غزّى، ثم تفخيخ خطّة التهجير عبر بديلٍ شامل للإعمار فى وجود الفلسطينيين، وأخيرًا إنفاذ الرؤية عَمليًّا فى سياق تصوّر سياسى وتنفيذى لإدارة القطاع مرحليًّا وعلى المدى البعيد.
تستطيع الإدارة المصرية أن تواصل بمُفردها، ما افتتحته وحدها منذ الطوفان وتداعياته المبكّرة. كان العالم مُوزّعًا بين انتقاد حماس عن هجمة السابع من أكتوبر، وإدانة نتنياهو وعصابته بأثر العدوان الصهيونى الغاشم على المدنيِّين، بينما تُوازن القاهرة بين الحاضر والمُرجَأ، وتستشرف الأعاصير فيما وراء الفصول والغيوم، وتُحذِّر من المساس بأصول القضية الراسخة، أو الطمع فى تصفيتها على حساب الآخرين.
حتى اللحظة، كان المصريون حائط الصدّ لمُخططات الصهاينة وداعميهم. والقمة العربية لم تُدعَ لتحمل عنهم ما تنوء به أكتافهم؛ إنما استُحضِرت لتتحمل مسؤوليتها التاريخية، وبقدر ما تُؤازر الواقفين على جبهة المواجهة؛ فإنها تدافع عن صورتها حاضرًا، وعن وجودها ومصالحها الاستراتيجية فى المستقبل. إنها دعوة استقواء بالأشقاء؛ وبالقدر نفسه فرصة للتطهّر وإثبات الذات، فضلا على صدقيّة الخطاب وجدّية الانحياز.
وبعيدًا من الإغراق فى ثنايا الحدث، وبعضها من التقاليد البروتوكولية المعروفة سلفًا؛ فأهم ما فى الرسالة أن العرب قادرون على الاجتماع على كلمة سواء، والانضواء تحت راية القيادة التاريخية للمنطقة. قصّت القاهرة شريط التصدّى للتهجير، وصوّبت مباشرة على محاولات تمريرها من خلال حكومة الليكود، وما اهتزّت إزاء تسويقها من قناة واشنطن، وبفضل خبراتها العملية فإنها الطرف الوحيد الذى يملك البديل، وبإمكانها أن تردّ على الخطّة بأفضل منها، وأن تكون جاهزة لتفعيلها فى التوّ واللحظة.
فاعلية القمّة تتحقّق بالانعقاد؛ وتزداد بارتقاء مستوى التمثيل من دون شكّ؛ لكن رمزيّتها تُستمدّ من الداعى والمكان. بُمجرّد توجيه الدعوة أُضيف للحدث ما كان من سوابق الموقف المصرى، وصلابة الوقوف فى وجه المُخططات المُعدّة سلفًا لابتلاع الحجر والبشر. وكل ما سيأتى بعد ذلك تأمين على ما ينطق به الإمام، ودخول فى الرؤية المصرية للإنقاذ والإعمار.
استُبِقَت الهيئة العربية بلقاء فى الرياض، ضم دول مجلس التعاون الخليجى بجانب مصر والأردن، ورغم إخراجه على صِفة الاجتماع الودىّ غير الرسمى، ومن دون تقديم إفادة وافية بمحتواه ومُخرجاته، فقد تردَّد فى تقارير صحفية، ومن خلال مصادر دبلوماسية مطّلعة، أنه بحث موضوعات الحرب والتهجير وإعمار غزّة، واشتمل على رفض من بعض الحضور لبقاء توازنات القطاع على حالها الراهنة، أو الانخراط فى أى مشروع للتعافى وتطبيع حياة المنكوبين فى وجود حماس، أو هيمنتها على شؤون غزّة.
الاختلاف من طبائع الأمور، ومن المفهوم ألا تكون الأفكار مُتطابقة بشأن الأزمة الدائرة فى فلسطين حاليا، أو ما يخص القضية بالإجمال. والمسؤولية هنا تقع بالأساس على عاتق الفصائل، وقد أوغلوا فى الشقاق على حساب طموحاتهم التحرُّرية، والتحق فريق منهم بأجندات «فوق وطنية» تفيض بالأيديولوجيا وشبهات المحاور المُعادية للإقليم، ومن غير المنطقى أن يُطلَب مِمَّن كانوا ضحايا لخطاب المُمانَعة وممارساته، الإسهام فى إبقائه متسيّدًا، أو إنعاشه بعد ما طاله من انتكاسات تسبَّب فيها، وأضرّ بها القضية قبل أن يتضرر تنظيما أو ائتلافا.
والحال؛ أن أية قمة أو فعالية إقليمية ودولية، لا يُمكن أن تُؤتى أُكلها من دون حاضنة فلسطينية، ومواكبة أمينة من أهل القضية وقواها الفاعلة؛ ابتداء بالرجوع من طريق الانقسام وتبديد الطاقات، وانتهاء باللقاء على أجندة جامعة، وبينهما الاعتراف بما كان فى سنوات الإهدار الوطنى، والتحلّى بفضيلة المراجعة والاعتذار للذات والآخرين، والنزول قبولا وارتضاء على مشروع الإنقاذ العربى، بعيدًا من الإنكار والتشغيب والانتصار للشخصى على العام.
أحرزت القمّة الطارئة هدفها الأهم، بإنجاز رسالة مُوحَّدة فى مواجهة مشروع الريفييرا الترامبية. واعتماد الخطة المصرية للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، مع ما يتبع ذلك من الانخراط فى ورشة موسّعة لتدبير التمويل، وبدء العمل على مُداواة القطاع المتضرر، وفى تلك المهمة يتقدّم الجانب الاجتماعى على كل اعتبار آخر، بل وتنبع منه بقية الاعتبارات.
المشكلة الأكبر لدى الاحتلال؛ لكنه ليس المشكلة الوحيدة. ما عزَّز جنون نتنياهو إلا «طوفان السنوار»، وما أغراه بالإجهاز على واحدة من ركائز الدولة الفلسطينية المأمولة، سوى أجواء الانقسام وتغليب الأيديولوجيا والتحالفات الفصائلية على العناوين الوطنية. ولن يتيسّر انتشال القطاع من نكبته، أو مصالحة أهله على الحياة مُجدَّدًا؛ إلا بالرجوع إلى الطاولة الواحدة، وإرساء دعائم البيت وترميمه بما يستعيد الحيوية والاستدامة.
قد يتردَّد بعض العرب حال بقاء حماس فى واجهة المشهد، أو إصرارها على احتكار القرار أو الشراكة فى إدارة اليوم التالى؛ لكن كُل المانحين الغربيين من دون استثناء لن يشاركوا فى وجودها، والاحتلال لن ينزل على أية تسوية تستبقى عناصر القسّام حاضرة وفاعلة، ومن ورائها الولايات المتحدة بطبيعة الحال، توافقها الرأى وتوافيها فيما تريد. والأهم؛ أنه لا سبيل لانتظام يوميّات القطاع، وتهيئة المجال الوطنى لاستكمال ملامح سُلطته المُنشّطة، واستعادة طريق «حل الدولتين»؛ إلا بتصفية الخلافات العالقة بين غزة ورام الله.
وفى شأن القمّة؛ تُفهَم طبيعة التمثيل من واقع التزامن مع شهر رمضان. وقد لا يكون البعض راضين عن مسار الإعداد، أو أنهم تطلعوا لأدوار تفوق ما يستطيعون الوفاء به، وقد يعود الأمر إلى خشية أطرافٍ من الظهور فى تظاهرة علنية تتضادّ مع أطروحة ترامب، أو رغبتهم فى استبقاء القنوات مع الإدارة الأمريكية موصولة وخالية من الشوائب، وكلها تفاصيل يسهل النقاش فيها بأريحية ومن دون حساسيات، ولا تخصم من الحدث أو أطرافه، وتُؤكِّد عَمليًّا أن المضمون يتقدّم على الشكل، والمُضيف يسدّ أية شقوق فى تركيبة الضيوف، ومنه تنبع قيمة الحدث، وبه تكتمل آثاره وجُملة عطاياه.
ما راهنت عليه مصر أصابته كاملا. التأم العرب تحت رايتها، وحل سكرتير عام الأمم المتحدة مع قائمة طويلة من المنظمات الإقليمية والقارية والدولية، واتَّحد الجميع فى رسالة واضحة، ربما تختلف فى الصياغات والتفاصيل؛ لكنها تتفق فى الجوهر والخطوط العريضة، وتردّ بلُغة حادّة وإجماعية على أطروحة ترامب، وعلى سخف ونازية الأفكار المُتردّدة فى إسرائيل.
وإزاء الضغوط الراهنة؛ فالوقت لا يحتمل المُناكفة وتنازُع الأدوار، أو البحث عن مكتسبات ضيّقة لأفراد أو حكومات.. ربما تضيق الصدور بمُقامرة حماس، وما ألقته من أعباء على الحاضنة العربية اللصيقة، أو أضرّت به خططًا سابقة للتطبيع والتكامل الاقتصادى، فضلاً عن خدمة طموحات الشيعية المُسلّحة على حساب دول الاعتدال ومصالحها الحيوية، وكلها مسائل تُبرِّر البَرَم من الحركة؛ لكنها لا تُجيز الانصراف عن فلسطين.
تمتلئ الخطّة المصرية بالتفاصيل؛ لكن أهم ملامحها الخروج من الأيديولوجيا إلى الوطن. إنها تشقّ مسارًا وئيدًا باتجاه المصالحة، وتُؤسِّس لإدارة انتقالية لمدة 6 أشهر من خلال لجنة فنية غير فصائلية، مع العمل على تحضير البيئة لإجراء انتخابات عامة فى غضون سنة. وإلى ذلك؛ تُقسَّم المهمة الإنسانية لثلاث مراحل تقريبًا: التعافى المُبكر لتوفير ضروريات الشهور القليلة المقبلة بنحو 3 مليارات دولار، ثم الشق قريب المدى بتكلفة 20 مليار دولار على عامين، وبعدها المرحلة بعيدة المدى ويكتمل بها الوصول إلى الصورة المثالية للقطاع.
والطريق إلى التفعيل يمرّ من مسارين: الأول عبر لجنة وزارية تُخاطب واشنطن وتواصل تسويق المشروع، والثانى بالدعوة إلى مؤتمر دولى للمانحين فى القاهرة، يُفترض أن يكون فى غضون شهر، ويتولّى تدبير الإسهامات المطلوبة بحسب المراحل المُعجّلة والقريبة وبعيدة المدى، بالتزامن مع اكتمال التصوّرات الإجرائية بشأن المرحلة الانتقالية، وآلية بناء السلطة البديلة عن حماس.
استُنفِد الوقت، وما عاد المجال يتّسع للجدل وتضييع الفرص. وإذ يتوجّه النضال بكامله لانتشال السياسة من محارق الحرب؛ فإن المجال الفلسطينى والعربى لا يحتمل الدبلوماسية، ويتطلّب الوصول لأقصى قدر ممكن من الصراحة الجارحة. أخطأت حماس وأورثت القضية هزائم وجروحًا لن تبرأ سريعًا، وأجرمت الشيعية المسلحة فى حق المنطقة وقضاياها العادلة، ويُخطئ بعض العرب فى فصل الوطنى عن القومى، والنظر للصراع مع إسرائيل على صِفة جهويّة محدودة، ويجهلون أنهم إن لم يكونوا جالسين إلى المائدة؛ فسيكونون على الأرجح بين قائمة الطعام.
الدولة العِبرية كيان مُلفَّق من عدم، وما شبع بما فى جوفه حتى الآن، ولا لأطماعه مدى يُمكن الاطمئنان إلى نهائيته. يسعون لتهجير الغزيين إلى سيناء منذ سبعة عقود أو يزيد، وطرحوا الفكرة غير مرّة، واستعانوا بترامب اليوم لينوب عنهم فيها، ورغم مساعى توسيع دائرة الاتفاقات الإبراهيمية بالتطبيع مع السعودية، تجرّأ المجرم الوقح نتنياهو بنفسه على الدعوة لاتخاذ المملكة وطنًا بديلاً.. والحق أنها ليست رسالة كيدٍ عابرة، ولا تصعيدًا لغويًّا فى مواجهة تصعيد؛ بل لحظة انكشاف للنوايا الحقيقية، وتضخم للأطماع إلى أن تتفجّر بها الصدور فتفيض من الأفواه.
على الفصائل الفلسطينية بكل تلاوينها أن تعود خطوة للوراء، وتواكب الرؤية المصرية بانخراط حقيقى جاد، ومن دون تأثيرات بائسة للأيديولوجيا والاستتباع وشراء الذمم. وعلى العرب أن يضطلعوا بالمسؤولية التاريخية المُلقاة على عاتقهم، وأن يلتحقوا بقيادة القاهرة لإفساد خطط التطبيع وتصفية القضية، وتطلعات ترسيم المنطقة جسوسياسيا بما يُسيِّد تل أبيب على محيطها، الطامعين فى مودّتها قبل المشمولين بعداوتها.
تملك الدائرة الإقليمية كل عناصر القوّة اللازمة لردّ الهجمة، وتثبيت دفاعاتها المشتركة، وإغراء البيت الأبيض بمزايا الشراكة، أو إخافته من تداعيات التأجيج.. لا فرصة للإعمار من دون الأشقاء فى الخليج، ولا نجاح سوى بالمصالحة وتنحية حماس، ولا أمل أصلاً بعيدًا من رعاية القاهرة وإشرافها على مسار التثبيت والتأهيل والدفع مُجدَّدًا فى اتجاه حل الدولتين.
التكامل غاية عُليا، وضرورة لا رفاهية، ومصر برهنت عمليًّا فى القمّة على أنها دُعامة فلسطين التى لا تهتز، ومظلّة العرب التى تكتمل لديها عناصر القوّة الشاملة. وعلى ظاهر الصورة؛ يمكن القول إن الحدث العربى كان ناجحًا من جهة الشكل والمضمون، جيدًا لناحية الأثر، ومقدّمة لامتحان المنطقة فى نضجها وكفاءة أدوارها. والأيام المقبلة ستفرز الحاضر وتفسّر الغامض، وتُمَتِّن الصفوف، وتُقيم الحُجّة على الشاة الشاردة.