في الشّهْر التاسِع من كل عامٍ هجْريّ يسْتعدُّ المسلمون لأداء شعيرةِ الصيام؛ حيث الامتناعُ عن عن المشْرب، والمأكل، وكافة الممارسات التي من شأنها تُفسْد هذا الصيام؛ حيث الالتزامُ التام من قِبلِ الإنْسان دون أدنى رقابةٍ عليه؛ لذا كانت مثوبة هذا الشهر الفضيل من قِبلِ المولى - عز وجل –، وهذا ما ورد في حديثه القُدْسي عن ربّ العِزّة؛ حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به)؛ ومن ثم يتحرّى كل من يمتلك الوعْي الصحيح تجاه تلك الفريضة أن يبعد عن كل ما من شأنه يقلل من الأجر، والجزاء الذي أعدّه الله – تعالى – مكافأة بشأن الامتناع عن شهْوتي البطن، والفرج من بُزوغ الفجْر حتى غروب الشمس.
وتُشّكلُ عبادة الصوم الركن الرابع من أرْكان الإسلام، وهنا يصبح الفرد على جاهزيّة بعد تذوق حلاوة الإيمان بالله – عزوجل-، والإذعان له بالعبودية، والربوبية، وإقامة الصلوات التي يخاطب فيها العبد ربه، ويدعوه بخالص النية أن يحسّن عمله، ويتقبله، ناهيك عن إخراج الزكاة المستحقة لكل من يمتلك المال؛ ليحقق التكافل المنشود؛ ومن ثم يأتي الصيام؛ ليهذّبَ النفس، ويخرجها من جموح الشهوات للانكسار لرب العرش العظيم، والإحساس بقوة الروح التي تسمو على اتقاد حيوية البدن، وتوهجه.
ويسْبقُ الشّهْرُ الفضيلُ شهْري رجب، وشعبان، وفيهما يستعد المسلمون بأرواحهم؛ ليستقبلوا شهر البركات، وقد مرّتْ عليهم أيامٌ طيبّةٌ فيها من تصدّق، ومن صام، ومن قام، ومن ذكر، ومن رتلّ القرآن آناء الليل، وأطْراف النّهار، وهذا يؤكد الاستعداد التام؛ لتكثيف الممارسات الإيمانية؛ كي يَجْني في هذا الشهر العظيم الثواب الأجلّ؛ فمضاعفةُ الحسناتِ لم تكنْ قاصرةً على الصيام فقط، بل هناك صلاةٌ للقيام، والتهجد، وتلاوة للقرآن بصورةٍ منتظمةٍ، أو متواليةٍ، وكأنّ الجميعَ يدرك عِظَم المثُوبة؛ ومن ثم تجد الطاقاتِ مُسْتنْفرةً، والعزيمة، والإرادة، والمثابرة من أجل ذلك على أشدّها لدى الجميع، وقدْر المُسْتطاع.
ورُغْم انْشغال الإنسان في شتّى مناحي الحياة؛ إلا أنه يغْتنم هذا الشهر الكريم فيصر على أن يهجر كل ما من شأنه غير سويّ مهما صغُر حجْمه، ويسعى إلى باب التوبة المفْتوح على الدوام، ويمارس العديد من صور، وأفعال البرّ؛ ليشعر بساعدةٍ غامرةٍ، ويتذوق حلاوة الطاعة بمزيدمن صلاة الفرْض، والنّافلة؛ كي يُكْثر من التضرّع إلى الله – عز وجل –، ويعمد إلى الابتهال في صلاة الجماعة، والفرد؛ ليسأل ربه - عزوجل- إصلاح شأنه، وصلاح أمره في الدنيا والآخرة.
ما أجْمَلهَا من أيام! تبتهج فيها الأنفسُ، وتتعانق الأرْواحُ في ساحات الطّاعة؛ حيث تمتلئ المساجد بروّادها من الكبار، والصغار، ذكورهم، وإناثهم؛ ليستشعر الجميعُ حلاوة القرآن، وطلاوته التي تُلْقى على المسامع؛ فيبْحر فيه الوجدانُ، وينْهلُ من كلام الرحمن العذب؛ فترْقى الأرواح، وترْقَى الأحاسيسُ، وتزداد المطالب، والرجاء تجاه الغفران من الواحد الديّان؛ فتنْهمرْ على إثرها دموع التوبة، والإخلاص من كل ذنب، وخطيئة؛ ومن ثم تصبح الصحائفُ - بإذن ربها- بيضاءَ.
إنّ سُموّ الروح في هذا الشهر الكريم يحثُّ الإنسانَ منا على الصدق في القول، والعمل وإخلاص النّوايا في كل ما يُؤدّي، بل يحضّه على أن يُكْثر، ويجزْل في العطاء، ويتخلّى عن الحرص، وخشْية الفاقة؛ فيدْركُ أن الصلاة وحدها لا تكفي، ولا تصل به إلى الغاية المنْشودة، ويعي أن التضرّع وحده لا يحقق المراد؛ لكنه يكامل في أعماله؛ فتراه يصومُ، ويقومُ، ويتصدّقُ، ويُطْعمُ، ويسقي، ويقوم الليل، ويتلو القرآن الكريم، ويسارع إلى كل صور الخير، وأعمال البر، وأفعاله التي من شأْنها تُدْخلُ السّعادةَ، والسرور على قلوب بني البشر.
في أيام الشّهر الفضيل تُرْصدُ حالةٌ من الارتياح لدى المؤمن الحقّ؛ فتراه متسامحًا يتحلى بمكارم الأخلاق الكريمة، تشاهد صبْره، وحُلْمه؛ فلا يتجاوز، ولا يُسِيء إلى غيره، ولا يحاول أن يُسبّبَ الضِيقَ لأحد، بل يسْمو بروحه عن كل نقيصةٍ، ويؤدي عمله بكل تفانٍ، وإتقانٍ، ولا يتكاسل في أداء واجباته؛ حيث إنّ غاياته الواضحة تكمن في رغْبته في الطّاعة التي تُقرّبه إلى الله – تعالى – فينالُ الأجرَ، والمثُوبةَ.. رمضانُ كريمٌ.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر