في عالمٍ يقاس فيه الحضور على الشاشة بثقل الكلمات ورقة الإحساس، كانت "فريدة الزمر" واحدة من تلك الأيقونات التي صنعت تاريخًا ناطقًا بإبداع الإعلاميات المصريات، وجهها لم يكن مجرد انعكاس للإضاءة الكامنة خلف الكاميرات، بل كان مرآةً لعصرٍ تغنت فيه الشاشة بحكايات الشعب، بلهجة بسيطة ونبرة مليئة بالثقة.
ولدت فريدة الزمر في زمنٍ كانت الكلمة فيه أقوى من الصورة، لكن بحضورها الآسر وأدائها الفريد، مزجت بين الاثنين لتخلق تجربة إعلامية خاصة، كانت الشاشة الصغيرة ملعبها الكبير، حيث حملت صوت الناس وقضاياهم لتصل إلى كل بيت.
بدايتها في التلفزيون المصري لم تكن مجرد محطة عمل، بل كانت نافذة فتحتها على آفاقٍ أكبر، جعلت منها نموذجًا للمرأة القادرة على تحقيق المعادلة الصعبة بين التميز المهني والروح الإنسانية.
"فريدة الزمر" ليست مجرد اسمٍ في تاريخ الإعلام المصري، بل صفحةٌ ناصعة البياض تحمل بين سطورها درسًا خالدًا: أن التميز ليس في البقاء طويلًا، بل في ترك أثرٍ لا يمحوه الزمن، وهكذا تبقى فريدة، صوتًا عابرًا للأجيال، ومرآةً تعكس الوجه الحقيقي للإعلام الذي نحتاجه دائمًا.
وفي واحدة من أكثر الأحاديث دفئاً، تتحدث الإعلامية الكبيرة فريدة الزمر عن رمضان كما عاشته في الزمن الجميل، تعيدنا عبر ذكرياتها إلى أيام كانت خلالها المائدة ملأى بالأطعمة الطيبة، والمنازل عامرة بالزينة والفرحة، والروحانية تسيطر على الأجواء، هي لحظات من الزمن الذي يعيدنا إلى طقوس وعادات باتت جزءًا من تاريخنا، وتفتح الزمر أمامنا خزائن ذكرياتها العذبة، لتروي لنا كيف كان رمضان يختلف، وكيف كانت العائلة تتجمع حول الدفء والمحبة.
الاعلامية فريدة الزمر مع الزميل محمود عبد الراضي
بداية، كيف تصفين رمضان في الزمن الجميل؟
رمضان زمان جميلا، مليئًا بالبركة والمحبة والروحانية، كنا ننتظره طوال العام وكأن عبير رائحته يسبق موعده، كانت أيامه تأتي كنسمة دافئة تطبطب على القلوب، وكان له طابع خاص لا يمكن أن تجده في غيره من الأشهر، رمضان كان زمني المفضل، لدرجة أنني كنت أشم رائحته في الهواء قبل أن يبدأ بوقت طويل، أجواء رمضان كانت تجلب طمأنينة روحية في النفوس، وتمنح الحياة معنى خاص.
هل يمكن أن تخبرينا عن بعض الطقوس الرمضانية التي كانت سائدة في الماضي؟
كان لرمضان طقوسه الخاصة التي تغير كل شيء في البيت، المنازل كانت تتحول بشكل كامل، تتحلى بالفوانيس والأضواء والزينات الملونة التي تملأ الأرجاء فرحًا، لم يكن هناك منزل يخلو من الزينة، وكان كل شيء ينبض بالحياة، خاصة في ليالي رمضان، كانت هذه الزينة تخلق جوًا من البهجة والسرور في القلب، حتى الجيران كانوا يتعاونون في التزيين، وكل منزل كان يشع بالنور.
ماذا عن الطعام في رمضان؟ هل كانت هناك أطباق معينة تميز هذا الشهر؟
الطعام كان أحد أروع الأشياء في رمضان، كانت المائدة مليئة بالأطباق التقليدية التي لا يمكن أن تجدها إلا في هذا الشهر، اللحوم، الخضار، وأطباق رمضان الشهيرة مثل الكشك والكنافة والقطايف كانت تحضر بشكل يومي، كنت أستطيع أن أشم روائح الطعام من على بعد، خاصة بعد صلاة العصر، حيث كانت السيدات في المنازل يبدأن في تحضير الأطباق الشهية. المحشي، البط، وكان ذلك في الأيام الأولى من رمضان، كانت أمي وجدتي تعدان الطعام، وأنا أستمتع بمساعدتهن، أتذكر جيدًا جدتي فريدة، التي سميت على اسمها، وكيف كانت تذبح الأوز وتعد لنا الكبدة والقونصة، كانت تلك اللحظات لا تُنسى.
كيف كان رمضان بالنسبة للعائلة؟ هل كانت هناك لحظات مشتركة تجمعكم؟
رمضان كان فرصة عظيمة لالتقاء العائلة، كان التجمع العائلي في رمضان يمثل قمة السعادة، حيث كان الرجال يتجمعون في الدوار ويتناولون الطعام معًا، فتذوب الخلافات وتزداد الروابط الأسرية قوة، كانت الصواني النحاسية تخرج من كل منزل محملة بالأطعمة الشهية، وكان هذا التجمع يشع بالفرح والسكينة، كانت تلك اللحظات تجمع بيننا ونحن نتشارك الضحك، ونتبادل الحديث حول ما مر في اليوم، رمضان كان وقته للعودة إلى جو العائلة.
كيف كان التليفزيون يؤثر على أجواء رمضان؟ هل كانت هناك برامج مميزة تتابعونها؟
التليفزيون في رمضان كان بمثابة نافذة للفرح والبهجة، كان هو المصدر الوحيد الذي يملأ البيوت بالمتعة، كنا ننتظر بشغف برامج مثل ليالي الحلمية وأرابيسك و'الفوازير مع عم فؤاد وبوجي وطمطم، وكان الف ليلة وليلة يُعد حلماً ينعش كل قلب، كنا نجتمع كأسرة واحدة حول التلفاز، وكان الضحك والتسلية يملأ أرجاء البيت، لم تكن السهرات الرمضانية مجرد مشاهدة، بل كانت لحظات تقوي الأواصر العائلية.
حدثينا عن عادة "الطبق الطائر"، ما الذي كانت تعنيه لكم في ذلك الوقت؟
"الطبق الطائر كان جزءًا من تقاليدنا الأصيلة، كانت السيدة تحضر طبقًا من الطعام وتدفعه لطفلها ليأخذه إلى الجيران، وعندما يعود، يكون محملاً بالحلويات، كان هذا الطبق يجوب الأزقة والشوارع، ويعبر بين البيوت في مشهد يعبق بالمحبة والمودة،كانت تلك اللحظات مشحونة بالتكافل والترابط بين الجيران، وكأن رمضان هو الهدية التي تقدمها الأرواح لبعضها.
ماذا عن الروحانيات في رمضان؟ كيف كانت الأجواء الدينية في تلك الفترة؟
كان رمضان يحفل بجو من الروحانية التي لا يمكن أن تجدها في أي وقت آخر، أصوات القراء مثل عبد الباسط عبد الصمد، والمنشاوي، ومحمد رفعت كانت تملأ الأجواء، كانت هذه الأصوات تزرع فينا خشوعًا يربطنا بالله، وفي المساجد، كانت صلاة التراويح تشهد تجمعًا كبيرًا، حيث كانت الطوابير تمتد لمسافات طويلة خارج المساجد. كان هذا مشهدًا رمضانيًا لا يُنسى، مليئًا بالخشوع والمحبة.
العزومات كانت من أهم طقوس رمضان، ماذا عن تلك اللحظات؟
العزومات كانت لحظة حاسمة في رمضان، كانت فرصة للتزاور بين الأقارب، وكانت الأجواء مليئة بالحب والتواصل. كان لدينا جدول محدد للعزومات، حيث كنا نلتقي في بيوتنا لنفرح معًا بعيدًا عن ضغوط الحياة اليومية، كانت هذه الجلسات بمثابة فرص حقيقية للتقارب العائلي، وكان رمضان هو الشهر الذي يتجدد فيه الحب بين الأفراد.
في أيامك كـ"مذيعة ربط" في التليفزيون، ماذا كانت تعني هذه المهمة؟
مهمة مذيعة الربط كانت إحدى العلامات البارزة في التليفزيون المصري، كنا نربط بين فقرات البرامج، نعلن عن مواعيد الأفلام والمسلسلات، وننقل المشاهدين بين مختلف البرامج، جملة "المذيعة جت" كانت بمثابة إشارة بداية لعرض برنامج ينتظره الجميع، كان التليفزيون المصري في تلك الأيام المصدر الأساسي للتسلية والبهجة، وكانت مذيعات الربط جزءًا لا يتجزأ من هذا السحر."
هل لديكِ ذكريات مع بعض النجوم الذين حاورتهم في برامج رمضان؟
"لقد حاورت العديد من النجوم الكبار في رمضان، مثل يسرا وعمر الشريف وصلاح أبو سيف وغيرهم من عمالقة الفن، كانت تلك اللقاءات مليئة بالإثارة والفرح، وكنت أبحث دائمًا عن أن أسعد الناس وأضفي عليهم لحظات من البهجة.
ماذا كان يعني لكِ التليفزيون شخصيًا؟ هل كان مجرد وسيلة للعمل أم كان له تأثير أعمق؟
التليفزيون كان عشقي الأول، كان العمل فيه حلمًا من أحلامي، كنت أتمرن أمام المرآة لأقلد نفسي وأنا أقدم البرامج. الفكرة بالنسبة لي لم تكن الشهرة أو الأضواء، بل كانت المهنة نفسها، كانت تلك اللحظات من العمل لا تُقدر بثمن.
أخيرًا، كيف تغيرت احتفالات رمضان في عائلتك مع مرور الأجيال؟
"رغم أن الأذواق تغيرت مع مرور الأجيال، إلا أن لمة الأسرة تبقى دائمًا هي القاسم المشترك في رمضان، لدي ابنة وحيدة، الإعلامية هند رشاد عضو مجلس النواب، وقد شهدت تفاصيل حياتي في رمضان، كما أنني أصبحت أحتفل برمضان مع ابنتي وحفيدتي مريم "طبيبة"، التي ملأت حياتنا سعادة، نحن ربما نختلف في الأذواق، لكننا نتفق في أن روح رمضان تكمن في لمة العائلة وحبها.
تبقى ذكريات الإعلامية فريدة الزمر عن رمضان، شهادة حية على الأوقات الجميلة التي كانت تتميز بالبركة والمحبة، وتبقى الأجواء الأسرية والروحانية جزءًا من ذاكرة مصر التي لا تمحى.