ما أعظم لحظات الوداع حين يكون المفارق شهرًا تجلى فيه العطاء الإلهى، واستقامت النفوس فيه على نهج الطاعة، وخفقت الأرواح فى محراب القرب، فكيف يكون وداع رمضان وهو الذى كان ميدانًا للمتسابقين إلى الله ومحرابًا للعابدين، ومشعلًا أضاء دروب السائرين.
إنه ليس مجرد أيامٍ معدودةٍ تنقضي، بل مدرسةٌ ربانيةٌ تفتح أبوابها كل عام لتخرج جيلًا من العابدين عرفوا لذة المناجاة، وذاقوا حلاوة الطاعة، ثم ينقضى الشهر ويبقى فى القلوب شوق المودّعين، كما بقيت فى قلب النبى ﷺ دموع الفراق وحنين الشوق، وكيف لا وهو الذى كان أعظم الناس حبًّا لهذا الشهر وأحرصهم على اغتنامه، فإذا أقبل رمضان تهللت أساريره، واستبشر بقدومه، وإذا دنا رحيله، بان الحزن فى ملامحه، واشتدت وصاياه، لأنه الشهر الذى فُتحت فيه أبواب الجنة، وغُلقت فيه أبواب النيران، وصُفّدت الشياطين، وارتفعت الأرواح فى مراقى الطهر، وانهمرت دموع التائبين، فأى فراقٍ أشد على القلوب من فراق أيامٍ كهذه.
وقد جاء فى الحديث الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى ﷺ قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين »، «متفق عليه »، فهو شهرٌ تفتّحت فيه أبواب الرحمات، وتتابعت النفحات، وجادت السماء بعطايا لا تحد، فكيف لا يحزن المؤمن على رحيله، وكيف لا يذرف الدمع على انقضائه، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتهيأون له قبل قدومه، ويسألون الله بلوغه، فإذا أشرق عليهم عاشوا فيه حياتهم كلها لله، فإذا انقضى سألوه القبول ستة أشهرٍ أخرى، فهم بين خوفٍ من رد العمل ورجاءٍ فى أن يُتقبل منهم.
وقد جاء فى القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعنى فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ »، «المؤمنون، 60 »، فسألَت أم المؤمنين عائشةُ رضى الله عنها النبى ﷺ عن هذه الآية، فأجابها الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «يا بنت الصديق هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يُقبل منهم»، رواه الترمذى.
وكما كان النبى ﷺ أشد الناس فرحًا بقدوم رمضان، كان أشدهم حزنًا عند وداعه لكنه لم يكن وداعَ قطيعة، بل كان وداعَ مودّعٍ يرجو اللقاء، فلم يكن رمضان عنده ﷺ مجرد محطةٍ عابرة، بل كان نقطة انطلاقٍ نحو الثبات على الطاعة، ومن هنا جاءت وصاياه للأمة بالمداومة على العبادة بعد رمضان، والحذر من الانتكاس بعده.
وقد قال ﷺ «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، «متفق عليه»، لذا كان يحرص على صيام الست من شوال ويحث عليها قائلا: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر»، «رواه مسلم»، وكان ﷺ دائب العبادة، لم تكن طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة زمان دون زمان، بل كان عمله مستمرًا، كما وصفت أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، حاله بعد رمضان، فقالت:«كان عمله ديمة»، «رواه البخارى ومسلم»، أى دائمًا لا ينقطع، وهكذا كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وهكذا كان السلف الصالح، فهم الذين أدركوا أن العبادة لا تُحد بزمنٍ، وأن القلوب ينبغى أن تظل معلقةً بالله على مدار العام، كما قال تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » «الحجر، 99 ».
وأن من أعظم ما يخشاه المؤمن بعد رمضان أن يكون ممن قال الله فيهم: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا » «النحل، 92 »، فليس أدنى من أن يجتهد العبد فى الطاعة ثم يهدم ما بناه، ويفرط فيما حفظه، ويعود إلى ما كان عليه قبل رمضان وكأن شيئًا لم يكن، فإن كان قد ذاق لذة القرب وعرف طعم المناجاة، فكيف يعود أدراجه إلى الوحشة والبعد، فليس العاقل من اجتهد فى رمضان ثم ترك، وإنما من استدام الطاعة فى رمضان وبعده، فإن الله عز وجل قد جعل لنا أبوابًا كثيرةً للخير، فما دام فى العمر بقية وما دامت الأبواب مفتوحة فالسعيد من واصل السير، ومن لم يكن له فى رمضان بداية، فليجعل له بعد رمضان بداية ومن أحسن فليستمر، فإنما تُوزن الأعمال بخواتيمها.
إننا نودّع رمضان وكلنا أملٌ ورجاء أن يكون قد ترك فينا أثرًا لا يزول، وأن نكون قد تعلّمنا منه كيف نعيش مع الله لا لأيامٍ معدودة، بل على مدار العمر كله، وإذا كنا نبكى لفراقه، فلنجعل من تلك الدموع شاهدًا على صدق التوبة، وإذا كنا قد شعرنا بأسى الوداع، فلنحوله إلى عزمٍ على المداومة، حتى إذا عاد رمضان المقبل، عدنا إليه ونحن أكثر لله قربًا، وأشد له إخلاصًا، وأرقى مقامًا عند الله، ومن رحمة الله بنا أن جعل لنا بعد رمضان أبوابًا أخرى للخير، فمن فاته فى رمضان شيءٌ من الطاعة فليجتهد فيما بعده، فإن باب التوبة مفتوحٌ لا يُغلق إلا عند الغرغرة، وباب العمل باقٍ لا يُسد إلا بالموت، وقد جاء فى الحديث الصحيح أن النبى ﷺ قال: «إن لله فى أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها »، «رواه الطبرانى»، ورمضان كان نفحةً عظيمة، لكنها ليست الوحيدة، بل الخير ممتدٌ لمن أراد، والسبيل ممهدٌ لمن سلك، والسعيد من كانت دمعته فى وداع رمضان دمعةَ محبٍ تعلق قلبه بالله، فبكى على الفراق، ولكنه لم ينقطع، بل عاهد الله أن يظل كما كان أو أفضل، فإن كان قد بذل جهده فى رمضان، فليحمد الله وليواصل المسير، وإن كان قد قصّر فليصلح ما مضى، فقد قال النبى ﷺ: «من كانت آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة »، «رواه أبوداود وأحمد»، فالمهم هو الثبات على الحق وخير الناس من ختم له بخير، نسأل الله أن يختم لنا بخاتمة السعادة، وأن يجعلنا ممن قبل صيامهم وقيامهم، وكتب لهم العتق من النار.
وللحديث بقية.