وضع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجى أذنه على صدر أحد المرضى الساعة الحادية عشرة صباحا، ثم سقط فجأة فى يوم 24 مارس، مثل هذا اليوم، 1953، وتذكر ابنته «أميرة» لجريدة الشروق التونسية يوم 18 يونيو 2005: «من عجائب المصادفات أنه قبل وفاته وصف فى بعض مقالاته موت ستالين رئيس الاتحاد السوفيتى الذى توفى يوم 5 مارس 1953، والدكتور زكى مبارك الأديب الذى توفى يوم 23 يناير 1952، وشعر أنه سيموت بنفس الطريقة خلال أسبوع، وقال لأمى: «أصيبت بذبحة مرتين واستطعت أن أنقذ نفسى ولكن الذبحة الثالثة لن أمر منها بسلام، وأوصى أمى وتوفى فى نفس الأسبوع».
اشتهر «ناجى» بلقب «الشاعر الطبيب» أو «الطبيب الشاعر»، وولد فى حى شبرا بالقاهرة يوم 31 ديسمبر 1898 لأسرة القصبجى المعروفة بتجارة الخيوط المذهبة، وتخرج فى كلية الطب عام 1923، وافتتح عيادة فى ميدان العتبة بالقاهرة، وكان آخر منصب شغله هو رئيس القسم الصحى فى وزارة الأوقاف المصرية.
كان العاشق الذى مات حيا، وعاش خلال سنوات حياته فراشة معذبة حائرة تنتقل من غصن إلى آخر، عساها أن تجد الزهرة المنشودة التى تستقر عليها، كان ينطلق جامحا بغية أن يرتوى من الحب، وكان مجال الوسط الفنى خصبا لبحثه عن الارتواء الروحى، لكن هذا المجال لم يكن يخلق فى أعماقه سوى الزفرات والحسرات التى تزيد من إحساسه بالحرمان الروحى فى كل تجربة يخوضها مع فنانة أو كاتبة من الكثيرات اللواتى التقى بهن، أعجب بالممثلة الكبيرة أمينة رزق وكتب عنها قصيدة «نفرتيتى الجديدة»، وكتب قصيدة «وداع المريض»، وكانت ملهمتها الممثلة الكبيرة زينب صدقى، كما أغرم بالفنانة زوزو حمدى الحكيم والفنانة زوزو ماضى، وتغنى بغرامياته فى قصائده الشهيرة، وكتب قصيدة «بالله مالى ومالك» فى الفنانة «سامية جمال»، حسبما يذكر الشاعر «حسن توفيق» فى مقال «خمس قصائد مجهولة»، بمجلة «الهلال، يونيو 1977.
حالة ناجى التى يرصدها «توفيق» ربما تفسر معارك حول الرجل وأشعاره، منذ معركة ديوانه «وراء الغمام» عام 1934 وحتى الجدل الذى تفجر بسؤال: «من هى ملهمة شاعر الأطلال؟»، وأثير بعد غناء أم كلثوم قصيدة «الأطلال» عام 1966، وعن معركة «وراء الغمام»، يذكر «توفيق» فى مقدمته «الأعمال الشعرية المختارة - إبراهيم ناجى»، أنها بدأت من طه حسين بقسوة مغلفة بكلمات رقيقة، إذ قال فى جريدة الوادى، يونيو 1934: «صاحب الديوان، شاعر هين، لين، رقيق، حلو الصوت، عذب النفس، خفيف الروح، ولكن إلى حد لا يستطيع أن يتجاوز الرياض المألوفة، هو شاعر حب رقيق، لكنه ليس مسرفا فى العمق ولا مسرفا فى السعة» أما العقاد فقال: «أظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع»، واصفا أسلوبه بـ«البكائية والرخاوة المريضة»، ورد «ناجى» على «طه حسين»: «لو سألت نفسك عن أحب الكتب إليك، قلت: الأيام، لماذا؟ لأنها قصيدتك الكبرى، فيها دموعك، وضعفك كذلك، هى أقوى ما كتبت»، وعلى أثر ذلك أعلن «ناجى» أنه سينصرف عن الشعر والأدب، قائلا: «غدا فراغ، غدا يمشى الطبيب إلى قبر الأديب الذى كان ذات يوم هو نفسه، وقد حمل فى يده زهورا».
لم يتحمل «ناجى» الابتعاد طويلا عن الشعر فعاد إليه، لكن شهرته شعبيا انفجرت بعد وفاته بنحو 13 عاما مع أغنية «الأطلال» التى غنتها باقتدار سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ولحنها رياض السنباطى بإبداع ، فمعها انفجر البحث عن ملهمته التى جعلت كل هذه العذوبة فى شعره، وحسب «محمد رجب» فى مقاله «أنا ملهمة شاعر الأطلال»، المنشور بجريدة «أخبار الأدب، 6 أكتوبر 2012»، يذكر على لسان الفنانة زوزو حمدى الحكيم أنها ملهمة «الأطلال»، وأنه كان يدون قصة حبه لها بأبيات من القصيدة خلف الروشتة كلما زارته وهى تتوارى خلف الفحص الطبى.
غير أن الشاعر حسن توفيق فى تقصيه لهذا الأمر فى مقاله «إبراهيم ناجى لم يعشق غير زهرة المستحيل»، «ديوان العرب - إلكترونية - 24 مارس 2013»، يقول: «فى السنوات الأخيرة من حياة الشاعر صالح جودت (صديق ناجى) كانت علاقتى به علاقة وثيقة، على الرغم من اختلاف الأهواء والثقافة والنشأة والأجيال، وفى جلسة حميمية معه سألته عن ملهمة الأطلال، فأكد لى أن ناجى لم يكتب رائعته من وحى أية ممثلة من اللواتى ادعين ذلك الادعاء، وقال لى إنها من وحى حبه الأول «ع .م» فاستفسرت منه عنها، فأخبرنى باسمها، ورجانى أن أحتفظ بالأمر سرا، لأنها ما زالت على قيد الحياة، ولأن ناجى كان يحبها من جانبه هو فحسب، وبعد رحيل «جودت» سألت الأخ الأصغر لناجى وهو المهندس الراحل حسن ناجى فأكد ما ذكره «جودت»، والآن وقد رحلت أجد أن من حقى أن اذكر اسمها وهى «عنايات محمود الطوير».