في سجلِّ التاريخ أيامٌ لا تُشبه غيرها، لحظاتٌ يتوقف عندها الزمان ليُسطِّر على صفحاته نصرًا خالدًا من نوع خاص، نصرٌ رُسمت ملامحه بحِلم النبوة، وصيغت حروفه برحمة القائد، فلم يكن يوم الفتح الأعظم يومًا يُشهر فيه السيف بقدر ما كان يومًا تُرفع فيه راية العفو، ويُكتب فيه للإنسانية درسٌ لم تألفه الجبابرة ولا سطرته الممالك، بل صنعه قلبٌ امتلأ إيمانًا، ونفسٌ سمت فوق الأحقاد ولسانٌ لا يعرف إلا العدل والإحسان، لقد كان النبيﷺ في يوم الفتح أعظم من كل الفاتحين، وأرحم من كل المنتصرين، فلم يكن النصر عنده ثأرًا يطفئ به نار الماضي، بل رحمةً تفتح أبواب المستقبل، وكان دخول مكة إيذانًا بانتصار التوحيد على الوثنية، وانتصار الأخلاق على الضغينة، وانتصار العفو على الانتقام، حتى وقف ﷺ أمام قومٍ أخرجوه وآذوه وحاصروه وحاربوه، ثم قال لهم كلمته التي خُلِّدت في ذاكرة الزمن: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
تحرك النبي ﷺ ومعه أصحابه الكرام، جندٌ لم يعرفوا الغزو لأجل الطمع، ولا عرفوا السبي والغنائم، بل تحركوا ليحطموا أصنامًا طالما حجبت نور التوحيد عن القلوب، دخل النبي ﷺ مكة وهو يسير في موكبٍ مهيب، لا صخب فيه ولا كبرياء، يركب ناقته خاشعًا، وقد طأطأ رأسه حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس رحل راحلته تواضعًا لله الذي أيده بنصره، مصداقًا لقوله تعالى: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" (النصر: 1-3) فلم يكن يوم الفتح يوم استعلاء بل يوم استغفار، ولم تكن لحظة انتقام، بل لحظة سجودٍ وخضوع، فحين دخل النبي ﷺ مكة، لم يبحث عن أعدائه ليقتص منهم، بل توجه أولًا إلى بيت الله الحرام، يطوف حول الكعبة وهو يردد "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"،دخل النبي ﷺ المسجد الحرام، والكعبة تترنح تحت أثقال الأوثان التي نصبت حولها، فكان المشهد مهيبًا حين أخذ ﷺ بيده قوسًا، وأشار إلى الأصنام، وهو يتلو "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (الإسراء: 81)، فتهاوت الأصنام واحدًا تلو الآخر، كأنها لم تكن يومًا تُعبد، وكأن دعوة التوحيد لم تكن محاصرةً قبل بضع سنوات، وإذا بمكة التي قاومت الإسلام طويلًا، تفتح قلبها لنوره، وتستسلم لرسالته، فلم يمض وقتٌ حتى أقبلت جموع قريش تعلن إسلامها، وكأنها أدركت في لحظة أن ما قاومته عقودًا كان هو النور الذي طالما احتاجته، وقفت قريش أمام النبي ﷺ وجوهٌ تعرفه جيدًا، فهي التي كذبته واتهمته وسعت في قتله وأذاقت أصحابه صنوف العذاب، كل قوانين البشر تقول إن هذه لحظة الانتقام، وإن كل ما ارتكبته قريش يستوجب العقاب، لكن الرحمة المهداه ﷺ لم يكن قائدًا كغيره من القادة، بل كان نبيًّا جاء ليعلم البشرية درسًا في العفو عند المقدرة، فوقف يخاطب قومه قائلًا: "يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم فلم يجدوا إلا أن يقولوا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم" عندها انطلقت الكلمات من فمٍ لم يعرف إلا الخير "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فلا محاكمات ولا عقوبات ولا ثأر، بل عفوٌ شامل يطوي صفحة الماضي، ويفتح صفحة المستقبل، وكأن الإسلام لم يأتِ ليكسر الرقاب، بل ليكسر القيود التي طالما قيدت القلوب، لم يكن فتح مكة مجرد حدثٍ عسكري، بل كان انتصارًا روحيًّا وأخلاقيًّا قبل أن يكون انتصارًا عسكريًّا، فكم من جيوشٍ دخلت بلادًا فهدمت ونهبت وقتلت، لكن جيش محمدٍ ﷺ دخل مكة فلم يهدم بيتًا، ولم ينتهك عرضًا، ولم يقتل أسيرًا، بل وقف عند أبواب الكعبة، يعلن دستور الإسلام "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن"، وهكذا، بلمسةٍ واحدةٍ من الرحمة، تحول ألدّ أعداء الإسلام إلى أنصارٍ مخلصين، فدخلت مكة في دين الله أفواجًا، لا تحت تهديد السيف، بل تحت تأثير العفو، ولا تحت وطأة الإجبار، بل تحت نور الحقيقة التي تجلّت حين سقطت الأصنام، وارتفع صوت الحق، ولم يكن عجيبًا أن يكون فتح مكة هو الأنموذج الأسمى في تاريخ الفتوحات، فالقائد الذي فتحها لم يكن كغيره من القادة، لم يُشيد قصورًا باسمه، ولم يرفع تمثالًا لنصره، بل دخل مكة مطأطئ الرأس شاكرًا ربه وخرج منها ليعود إلى المدينة، دون أن يتخذها عاصمةً لحكمه، ودون أن يسعى لتكريس سلطةٍ أو جاه، هكذا كان يوم الفتح، يومٌ تعانق فيه النصر مع الرحمة، وتجلى فيه العفو عند المقدرة، لتظل مكة التي حاربت النبي ﷺ يومًا، شاهدةً على أن الإسلام ليس دين حرب، بل دين سلام، وأن محمّدًا ﷺ لم يكن مجرد فاتحٍ، بل كان هاديًا ومُعلِّمًا ورسولًا أرسله الله رحمةً للعالمين.
وللحديث بقية....
_______
*فضيلة مفتي الديار المصرية