البابا شنودة الثالث، رجل بحجم التاريخ وأب لا يعوض، قائد روحي استثنائي ترك بصمة لا تُمحى في قلوب الملايين، لم يكن مجرد بطريرك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل كان معلمًا وحكيمًا وأبًا روحيًا امتلك من الفطنة والحنكة ما جعله قادرًا على إدارة الأزمات بحكمة وهدوء.
عُرف بمحبته العميقة لمصر، فلم يكن الوطن مجرد مكان يعيش فيه، بل كان يسكن في أعماق قلبه، وهو ما تجلى في مواقفه الوطنية التي أكدت دائمًا على وحدة النسيج المصري. كان محبًا للسلام، لكنه لم يتهاون في الدفاع عن حقوق أبنائه، وكان صوته قويًا عندما احتاج الأمر إلى موقف حاسم.
ومع ذكرى رحيله، أجرى اليوم السابع حوارًا مع القمص بولس الأنبا بيشوي، سكرتير البابا الراحل، لتسلط الضوء على جوانب خفية من شخصية البابا شنوده، رحلته الطويلة في الخدمة، وكيف كان يواجه التحديات بحكمة نادرة، ومواقفه الوطنية، بالإضافة إلى تعامله مع مرضه.
البابا شنودة وسكرتيره القمص بولس
وإليكم نص الحوار الذي يحمل بين طياته ذكريات لا تُنسى عن أحد أعظم القادة الروحيين في تاريخ الكنيسة القبطية:
- كيف كانت أول مرة التقيت فيها البابا شنودة؟ وكيف تطورت علاقتك به؟
لم تكن معرفتي بالبابا شنودة مجرد لقاء عابر، بل بدأت منذ أن التحقت بدير الأنبا بيشوي. فقد كان من عادته أن يشرف بنفسه على طقس قبول طالب الرهبنة، خاصة في هذا الدير، وكان هو الذي يمنح الرهبان ملابسهم البيضاء بنفسه، ويرسم الرهبان والكهنة بيديه، بتزكية من نيافة الأنبا صرابامون، رئيس الدير آنذاك.
البداية كانت في عام 1998، حيث دخلت الدير في مارس من ذلك العام، وارتديت الملابس البيضاء على يد البابا شنوده في 4 أبريل 1998. ثم في 31 ديسمبر 2001، نلت نعمة الرهبنة بيده، وحملت اسم الراهب بولس الأنبا بيشوي. وبعد سنوات من التلمذة الرهبانية، رُسمت كاهنًا على يديه في 20 أبريل 2008. قبل أن أبدأ خدمتي معه، كنت بحكم دراستي وتخصصي مسؤولًا عن رسم الأيقونات في الدير والكاتدرائية الكبرى، وكذلك رسم المزار الخاص بالبابا شنودة. وعندما كنت أنجز أي عمل جديد، كان نيافة الأنبا صرابامون يدعو البابا شنوده ليبارك المكان، مما أتاح لي الفرصة للقائه مرات عديدة. في كل مرة كنت أراه، كان يشجعني ويمازحني، وكنت أشعر بأني أمام أب حقيقي، مليء بالمحبة والرعاية.
القمص بولس أثناء رسم أيقونات مزار البابا شنودة
في نهاية عام 2001، بعد رهبنتي بشهر واحد، أهديت للبابا شنودة صورة تخيلية رسمتها له وهو في المغارة، وقد شجعني عليها وظل محتفظًا بها. وعندما خدمت معه لاحقًا، فوجئت بأنه لا يزال يحتفظ بهذه الصورة في مقر إقامته بالقاهرة، مما أثر فيّ بشدة. بدأت خدمتي مع البابا شنودة، وبعد فترة قصيرة جدًا، أعطاني قلاية خاصة بجواره في المقر البابوي بالقاهرة. رافقته في كل مكان، باستثناء الرحلات الخارجية لظروف خاصة. في أصعب فترات حياته، خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من مرضه وآلامه الشديدة، نلت شرف أن أكون بجواره ليلًا، ليس لفضلٍ مني، ولكن لأنني كنت الأكثر تفرغًا بين الآباء المحيطين به. كان نيافة الأنبا يوأنس والأنبا إرميا لا يفارقانه طوال اليوم، وكانا يؤديان دورًا عظيمًا في خدمته، لكن وقت نومه كنت أظل بجواره. الجميع كان يخدمه بمحبة وتفانٍ، وكان شرفًا لي أن أكون جزءًا من هذه الخدمة.
لا أرى نفسي أفضل من غيري، فهناك آباء رهبان كثيرون أفضل مني، ولم أشعر يومًا بأنني أتميز عن أحد. لكن الله منحني هذه البركة العظيمة، وكان الاختيار يتم باتفاق بين البابا شنوده ونيافة الأنبا صرابامون. البابا شنوده لم يكن من الشخصيات التي يمكن فرض أشخاص عليها، فهو يحب أن يكون مرتاحًا مع من يخدمونه. جئت لخدمة البابا بعد نياحة الأب بخوم الأنبا بيشوي، الذي كان سكرتيره في الدير، وكان من أخلص الناس للبابا شنوده. كانت تربطني به علاقة قوية، وتعلمت منه الكثير عن محبة البابا وخدمته بكل إخلاص. لم أشعر يومًا أنني غريب عندما بدأت خدمتي مع البابا، بل على العكس، منذ الأسبوع الأول منحني مفتاح قلايته في الدير، ونلت ثقته ومحبته الكبيرة التي لم أكن أستحقها، لكنها كانت نعمة وهبة من الله.
أبونا بولس أثناء رسم القباب
- ما الذي تعلمته من خدمتك إلى جوار البابا شنودة الثالث، ولماذا كان يكن لك محبة خاصة؟
حب البابا شنودة لي كان نعمة من الله، وهو من أسعد الأمور التي حظيت بها في حياتي. لم تكن سعادتي بذلك توصف، وسأظل ممتنًا لهذا الحب والرعاية والثقة التي منحني إياها قداسته. كنت أشعر بسعادة غامرة بثقته في، وكلما كنت بالقرب منه، كنت أشعر فعلًا بالحب الأبوي العميق.
العمل بجوار البابا شنودة لم يكن سهلًا، فقد كان شخصًا لا يكل ولا يتعب، لا يعرف الراحة، دائم اليقظة والنشاط. كان من الصعب مجاراته، ولكنه في الوقت ذاته كان يمنح كل من حوله طاقة إيجابية كبيرة بسبب الحب الذي كان يظهره لنا جميعًا. حتى في الأوقات القليلة التي كنت أبتعد فيها عنه وقت النوم، كنت أنتظر بفارغ الصبر أن يمر الوقت سريعًا لأعود إليه من جديد.. كان يعلمنا كيف نتعامل مع الناس، ومع المسؤولين، وكيف نحل المشاكل بحكمة ومحبة.
تعلمت منه أن الوقت ثمين جدًا، وأنه يجب استغلاله بشكل جيد. كما تعلمت عدم الالتفات إلى الأمور الصغيرة أو المشاكل غير المهمة، لأن التركيز على الإيجابيات هو الذي يحقق النجاح. كان يؤمن بأن السلبيات لا تؤدي إلا إلى استنزاف طاقة الإنسان، بينما الإيجابيات هي التي تبقى وتنتصر في النهاية. ومن أكثر الدروس التي أثرت فيّ أن الإنسان يجب أن يحافظ على سلامه الداخلي، لأن هذا السلام هو أغلى ما يملك، وبه يستطيع أن يحقق كل شيء. لقد أثر البابا شنودة في كل الشخصيات التي كانت قريبة منه، وأنا أشكر الله أنني كنت بجواره، خاصة خلال فترة مرضه، حيث كنت ملاصقًا له مع نيافة الأنبا يؤنس ونيافة الأنبا إرميا. كان البابا شنودة متواضعًا لأقصى درجة، لا يفرق بين كبير وصغير، وكان يتعامل معنا جميعًا كأب مع أبنائه، بحب واحترام شديدين. لم أشعر أبدًا أنني أصغر منهم أو أقل رتبة، فقد كان يتعامل معنا جميعًا بمساواة تامة في الحب، في توزيع المهام، وفي النقاشات.
القمص بولس الأنبا بيشوي سكرتير البابا شنودة الثالث
البابا شنودة وأبونا بولس
- كيف كانت علاقة البابا شنودة بالمجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة يناير؟
كان البابا شنودة الثالث يمتلك خلفية سياسية واسعة، إذ كان مهتمًا بالشأن السياسي منذ شبابه، مما منحه إدراكًا عميقًا بتاريخ الإخوان المسلمين ونهجهم. لذلك، رفض تمامًا مقابلة أي من قياداتهم، رغم محاولات مرشد الجماعة، محمد بديع، المستمرة على مدار عام كامل للقاء البابا بكل الوسائل. كان البابا يعتذر بأدب ولطف، لكنه كان واضحًا في موقفه، إذ كان يؤمن بأن هذا الفصيل ذو توجهات سياسية، يسعى لاستمالة جميع الأطراف حتى يتمكن من الحكم، ثم يُظهر نواياه الحقيقية. وكان يرى أن عدم لقائهم أفضل، لأنه لو التقى بهم، فقد يكون مطلوبًا منه رد الزيارة، وهو ما كان سيرفضه بالتأكيد.
أما اللقاء الوحيد الذي جمع البابا شنودة بمرشد الإخوان، فقد تم في 7 مارس، عقب عظته الأخيرة، بينما كان يغادر الكاتدرائية وهو في حالة صحية متعبة. فوجئنا بهذه الزيارة، إذ لم يكن البابا أو الكنيسة قد رتبوا لها مسبقًا.
في المقابل، كانت علاقة البابا شنودة بالمجلس العسكري، وتحديدًا بالمشير محمد حسين طنطاوي، طيبة للغاية، حيث كان المشير يكنّ محبة واحترامًا كبيرين للبابا والكنيسة. وخلال فترة حكم المجلس العسكري، ساد التعاون والتقدير المتبادل بين الطرفين. تجلّت هذه العلاقة الوثيقة في العديد من المواقف، منها أحد الاحتفالات التي حضرها البابا شنوده، حيث أمر المشير طنطاوي بإحضار كرسي لقداسته ليجلس عليه أثناء وضع إكليل الزهور على النصب التذكاري، تقديرًا لحالته الصحية ومعاناته من آلام الظهر والساق. كما كان هناك تواصل دائم بينهما، وكان المشير حريصًا على تقديم كل سبل الراحة للبابا، لدرجة أنه عندما اضطر البابا للسفر المتكرر، عرض عليه المشير أن تكون جميع طائرات مصر للطيران متاحة له، بل وأي طائرة تابعة للدولة، سواء لسفرياته الرعوية أو العلاجية.
في كل رحلة كان البابا يقوم بها، كان المشير يرسل اثنين أو ثلاثة من كبار اللواءات لتوديعه واستقباله. واستمرت هذه العلاقة الطيبة حتى نياحة البابا، حيث ظهر ذلك بوضوح في التقدير الكبير الذي قدمته القوات المسلحة خلال جنازته، خاصة من خلال جهود الشرطة العسكرية في تأمين الكاتدرائية وتنظيم الحشود الهائلة، رغم الزحام الشديد الذي أدى إلى وقوع حالات وفاة بسبب التدافع. كما قامت، بتأمين نقل جثمان البابا شنودة إلى الدير، حيث طائرة مع الجثمان، بينما كان نيافة الأنبا إرميا، نيافة نيافة الأنبا صرابامون والأنبا ثيؤدوسيوس، القمص بطرس جيد، وأنا، في طائرة مع سيدنا. كما خصصت طائرة إضافية لنقل 14 من الآباء الأساقفة. لم تتوقف رعاية القوات المسلحة عند هذا الحد، فقد أمنت الدير بالشرطة العسكرية، التي قامت بتنظيم الحشود الضخمة التي تجمعت حوله بأعداد هائلة.
- أبرز أدوار البابا شنودة في المواقف الوطنية؟
كان البابا شنودة الثالث نموذجًا للوطنية الحقيقية، فقد أحب مصر بصدق، ولم يكن ذلك مجرد كلمات، بل كان يعبر عنه في كل تصرفاته. حتى عند سفره خارج البلاد، كان ينظر من نافذة الطائرة نحو أرض مصر، ويباركها بعلامة الصليب حتى تختفي عن نظره. من أقواله الشهيرة التي أصبحت رمزًا للوطنية: "مصر ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا". رغم أن هذه العبارة تعود أصلًا إلى المجاهد مكرم عبيد، أحد قادة حزب الوفد في عهد سعد زغلول، فإنها ارتبطت بالبابا شنوده لكثرة ما كان يرددها بحب وتأثر، حتى أصبحت تُنسب إليه في وجدان الشعب.
خلال حرب أكتوبر، لم يكتفِ البابا شنودة بالدعاء للجنود، بل زار الجبهة أكثر من مرة، والتقى بالقادة والجنود، وألقى خطبًا تحفيزية، وتم تكريمه من قبل الجيش بدرع القوات المسلحة. كما قاد الكنيسة في حملة دعم كبيرة للجيش والمصابين، حيث شكل لجنة لجمع المعونات الطبية والمادية لتقديمها للبلد والمصابين، حتى أنه جمع أكثر من 120 ألف بطانية لتوزيعها على المستشفيات التي تعالج الجرحى، وفر كميات كبيرة من الأدوية والمواد الغذائية لدعم المصابين.
رغم أنه لم يكن مطلوبًا للتجنيد الإجباري في شبابه، تطوع البابا شنوده في كلية الضباط الاحتياط وتخرج منها الأول على دفعته، إيمانًا منه بواجبه تجاه وطنه. لم يكن وطنيته مجرد مواقف فردية، بل كانت نهجًا في حياته كلها. كان دائم التشجيع لأبنائه على الاندماج في المجتمع والعمل السياسي والوطني، قائلًا: "الكنيسة لا تتدخل في السياسة، لكننا كأقباط مصريون وطنيون، ومن حقنا التعبير عن آرائنا." لذلك، كان يدعو أبناءه إلى المشاركة في الحياة النيابية والسياسية، لأنهم جزء أصيل من نسيج الوطن. كان البابا شنودة من أشد الداعمين للقضية الفلسطينية، وتحدث عنها في مختلف المحافل الدولية. ففي عام 1972، بعد فترة وجيزة من تنصيبه بطريركًا، ألقى كلمة في نقابة الصحفيين أكد فيها أن أرض سيناء لم تكن "أرض الموعد" كما يدعي الإسرائيليون.
ذكرى نياحة البابا شنودة الثالث
- كيف كان البابا شنودة يتعامل مع الأخر المختلف معه سواء في العقيدة أو الدين؟
كان البابا شنودة منفتحًا على العالم، وأدخل تقليد زيارة بابا الكنيسة لشيخ الأزهر ووزير الأوقاف للتهنئة بالأعياد، وهو تقليد استمر حتى اليوم. كما أرسى علاقات طيبة مع الطوائف الأخرى وتبادل الزيارات، كتقليد ذهاب بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لبطريرك الكاثوليك، للتهنئة بالأعياد، وسعى لوحدة الكنائس الأرثوذكسية عالميًا.
في عام 1973، قام قداسته بزيارة إلى الفاتيكان، حيث كانت هذه الزيارة الأولى من نوعها منذ 14 قرنًا بين بابا الإسكندرية وبابا روما بعد فترة الانقسام الطويلة.
خلال زيارته، أحضر رفات القديس أثناسيوس الرسولي إلى مصر، ووقّع بروتوكولًا لبدء حوار لاهوتي بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية، بهدف تعزيز التقارب والتفاهم، وفق جدول زمني محدد. وظل هذا الحوار قائمًا حتى يومنا هذا داخل المقر البابوي في دير الأنبا بيشوي، وهو الحوار الذي كنت مسؤولًا عنه طوال فترة خدمتي مع قداسة البابا، سواء كنت برفقته في الدير أو في القاهرة.
كان البابا شنودة محبًا للجميع، إذ أنشأ في دير الأنبا بيشوي كنيسة يصلي فيها إخوتنا الكاثوليك أو أي طائفة تزوره، كما أقام دارًا لاستقبال الآباء البطاركة من مختلف كنائس العالم، بحيث يجد كل زائر مكانًا يليق بمكانته، ويتمكن من إقامة الحوارات التي تعزز التقارب والتفاهم بين الكنائس.
رغم حرصه الشديد على نقاء الإيمان والتعليم القبطي الأرثوذكسي، إلا أنه كان معتدل الفكر في تعامله مع الآخرين، وكان يتعامل بمحبة مع جميع الطوائف في مختلف المجالات الرعوية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، عند مناقشة أي موضوع يتعلق بالأحوال الشخصية، كان يجمع كل الكنائس والطوائف المسيحية في مصر للنقاش باعتباره "كبير العائلة"، وكان الجميع يحب أن يكون في كنفه. وكذلك عند مناقشة قانون دور العبادة عام 2011م، دعا ممثلي جميع الكنائس والطوائف في مصر للاجتماع لعدة أيام من أجل إقرار هذه القوانين. كان البابا شنوده يؤمن بأن الخلاف في الفكر والعقيدة لا يعني التفرقة والتباعد.
- ما الذي كان يسعد البابا شنودة وما الذي كان يحزنه؟
البابا شنودة بطبيعته كان إنسانًا سعيدًا دائمًا، حتى في أصعب الأوقات. لم يكن يسمح للضيقات بأن تتغلغل إلى داخله، وكان دائمًا يقول لنا: "ضع الله بينك وبين الضيقة، فيظهر وجه الله المحب وتختفي الضيقة." وكان ينصحنا: "لا تدخلوا المشاكل إلى قلوبكم حتى لا تتعبوا، لا تسمحوا للضيقة بأن تكسر قلوبكم، بل اهزموها بإيمانكم."
أكثر ما كان يسعده، فكان انتشار الخدمة والتعمير الروحي، وليس فقط التعمير المادي.
كان يفرح جدًا عندما يسمع عن رعاية الفقراء والمحتاجين أو أي عمل يساهم في دعم الأسر المستورة. كما كان يشعر بسعادة غامرة عندما يسمع عن اتساع رقعة الكنيسة القبطية في الخارج، فقد استلم الكنيسة وبها عدد محدود من الكنائس خارج مصر، لكنها في عهده انتشرت في جميع أنحاء العالم. لقد كان هذا الإنجاز مصدر فرح كبير لقلبه. أما أكثر ما كان يحزنه، فكان معاناة أي شخص من أولاده، سواء كان ذلك بسبب مرض، ألم، أو مضايقات. كما كان يتألم إذا تعرضت الكنيسة لأي متاعب أو صعوبات، فقد مر بفترات عصيبة لم تكن سهلة على الكنيسة. على الرغم من إيمانه العميق بأن من ينتقل يذهب إلى السماء، إلا أنه كان يتأثر بشدة عند رحيل أحد أحبائه، لدرجة أنه أحيانًا لم يكن قادرًا على إلقاء العظة خلال الصلاة عليهم، لأنه كان أبًا محبًا يشعر بألم كل من حوله.
البابا شنودة الثالث أثناء خدمته
- من تأثر بهم البابا شنودة؟ وكيف كان يحضر عظاته؟
عندما سألت البابا شنودة عن مثله الأعلى في الشعر، خاصة بسبب حبه لمكرم عبيد، أجابني: "أنا آخذ من كل الأنواع ومن كل الأشكال، فلا يمكنك أن تقول إن شخصًا معينًا هو مثلي الأعلى في هذا المجال". كان البابا يطبق هذا النهج ليس فقط في الأدب، بل في كل العلوم، حتى في الأمور الكنسية. لم يكن يقتصر على رأي واحد، بل كان يستمع لكل الآباء ويدرس مختلف. كان ملمًا بالجوانب الروحية والثقافية والاجتماعية، ومؤمنًا بأن الإنسان طالما أعطاه الله وقتًا، يمكنه أن يثمر ويتعلم حتى آخر لحظة في حياته.
أما عن تحضير عظاته، فكان يكتب بخط يده نقاطًا استرشادية على كروت صغيرة، بحيث تذكره كل كلمة بمحور الحديث، مما جعل عظاته تتسم بتسلسل عجيب يناسب الجميع. ومع ازدياد اهتمام القنوات الفضائية بعظاته، بدأ في أواخر أيامه بتقديمها بأسلوب أكثر شمولًا، بحيث يستفيد منها أي شخص، سواء كان مسيحيًا أو غير مسيحي، رغم احتوائها على آيات وتعاليم لاهوتية. إلى جانب ذلك، كان البابا كاتبًا بارعًا، ينشر مقالاته في صحف متعددة.
صورة قديمة للبابا شنودة الثالث
البابا شنودة أسقف التعليم
-هل بدأ اهتمام البابا شنودة بالتعليم والفكر الأرثوذكسي عندما أصبح بابا، أم كان ذلك منذ أن كان أسقفًا للتعليم؟
اهتمام البابا شنودة بالتعليم بدأ منذ شبابه، حيث تتلمذ على يد القديس حبيب جرجس. وعندما أصبح أسقفًا للتعليم، سعى لحفظ الشعب في الإيمان الأرثوذكسي السليم، تنفيذًا لوصية البابا كيرلس السادس له: "يا ابني، اجمع أولادنا لحضن الكنيسة". كان يسافر للمحافظات لينظم نهضات روحية، وكان يحظى بشعبية واسعة بين الشباب، ويجوب الجامعات والكليات يحث الشباب على الإيمان السليم، وفي بعض الجامعات كان بحضر له شباب ما بين المسيحين والمسلمين، فأصبح يتحدث بالطريقة الروحية الاجتماعية التي تناسب الجميع، وعندما أصبح بطريركًا، قال: "لم يجلس الأنبا شنودة على كرسي مارمرقس، بل جلست عليه الكلية الإكليريكية." فقد ظل يُدرّس حتى آخر أيام حياته، وألف العديد من الكتب التي دافعت عن الإيمان الأرثوذكسي، وكان يؤكد دائمًا: "نحن لا نحارب شخصًا إنما نحارب فكرًا".
البابا كيرلس السادس والأنبا شنودة أسقف التعليم
- إذا أردت وصف البابا شنودة بخمس كلمات فقط، فماذا تكون؟
1. الأب: فقد جسد في أبوته كل معاني الحب والرعاية والعطاء والبذل، واعتنى بأبنائه الروحيين وكأنهم أبناؤه بالجسد، مقدمًا لهم اهتمامًا يفوق الوصف.
2. الحكيم: كان يتعامل مع كل المواقف بحكمة تفوق الإدراك، ورؤيته للأمور كانت دائمًا تتجاوز التوقعات، وكان دائمًا هو الرأي الراجح.
3. القوي: كان قويًّا في الشخصية، في الإرادة، في الإيمان، في الفكر، في العقيدة، وفي الدفاع عن الحق.
4. الحقيقي: كان تجسيدًا للحق بكل معانيه، فالحق ليس مجرد صدق، بل هو الثبات الذي لا يتغير، وهو النقيض التام للزيف. لم يقل شيئًا إلا وكان قد طبقه على نفسه أولًا، وعندما تكلّم أو حكم أو رعى، فعل كل ذلك بروح الحق والعدل.
5. المعتدل: كان الاعتدال سمة أساسية في كل جوانب حياته. كان قاسيًا على نفسه، لكنه حنونًا على الآخرين، ناسكًا وزاهدًا، لكنه في الوقت ذاته يسعى لراحة كل من حوله. دافع عن العقيدة وحفظ إيمان الكنيسة، لكنه لم يرفض التعامل مع من يختلف معه. تحمل المضايقات والمتاعب بصبر، ومع ذلك حرص على ألا ينطق بكلمة تسيء إلى أحد، حتى لا تؤخذ ضده أو ضد الكنيسة. في الفكر، في العلم، في الروح، في الخدمة، في الرعاية، وحتى في المواقف الوطنية والسياسية، ظل دائمًا معتدلًا، لا يميل يمينًا أو يسارًا.
البابا شنودة الثالث في مكتبه
- كيف تعامل البابا شنودة مع مرضه في أيامه الأخيرة؟
منذ بداية رهبنته، تعرض البابا شنودة لتجارب مرضية عديدة، كان أبرزها إصابته بانزلاق غضروفي شديد خلال فترة خدمته كراهب في حفل المغارة، وهو المرض الذي لازمه طوال حياته وتسبب له في آلام ومعاناة كبيرة. ورغم ذلك، كان قداسة البابا مثالًا فريدًا في احتمال الألم، إذ يمكن تلخيص موقفه في عبارتين: "كان يحتمل المجد والكرامة باتضاع، ويحتمل الألم بكل الشكر".
أتذكر أنني قلت ذات مرة إن في أشد لحظات ألمه، التي لا يعرف تفاصيلها الكثيرون، لم يكن يتفوه بكلمة "آه"، بل كان جسده ينتفض من شدة الألم مرددًا: "نشكر الله". لم يطلب يومًا الشفاء لجسده، ولم يكن همه التخلص من المرض، بل كان كل ما يرجوه حين يدعو له أحد بالصحة أو برفع المرض عنه، أن يشير إلى رأسه ويقول: "المهم أن يحفظ لي ده"، وكان يقصد بذلك أن يبقى عقله متقدًا من أجل الكنيسة، وليس لأجله شخصيًا.
البابا شنودة والأنبا غريغوريوس
وكان قد رأى البابا شنودة ما أصاب نيافة الأنبا غريغوريوس، أسقف البحث العلمي، الذي كان زميله ورفيق دربه منذ شبابه، وعُرف بعقليته المتقدة، لكنه أصيب بمرض الزهايمر. حزن البابا شنوده عليه بشدة، وقال عنه: "لا يوجد عقل يستوعب ما قرأه الأنبا غريغوريوس". ومنذ ذلك الحين، ظل يصلي إلى الله قائلًا: "يارب، احفظ لي ذهني، ليس من أجلي، بل من أجل الكنيسة"، لأنه كان يدرك أن أي اهتزاز في عقل البطريرك قد يشكل أزمة كبرى على الكنيسة كلها. وقد استجاب الله لهذه الصلاة، فظل البابا شنوده حتى آخر يوم في حياته حاضر الذهن، قوي الذاكرة، متقد العقل.
حتى في لحظاته الأخيرة، كان بجواره أقلام وأوراق وكتب، إذ كان يستعد لتحضير العظة التي كان من المقرر أن يلقيها يوم الأربعاء، لكنها كانت عظة بدأت ولم تكتمل. ورغم تحمله للألم، وربما إهماله لصحته أحيانًا، كان يحرص على أن يوصي الجميع بالالتزام بالعلاج وبتعليمات الأطباء، حتى وإن لم يكن يطبق ذلك على نفسه.
- كيف كانت اللحظات الأخيرة للبابا شنودة؟ وكيف تلقيت خبر وفاته؟
كنت متأكدًا أنني سأكون حاضرًا لحظة انتقاله، لذلك كنت أطلب من الله القوة لتحمل هذا الموقف. في يوم الجمعة 16 مارس 2012، عانى البابا من آلام شديدة استمرت حتى الفجر، ثم بدأ يرتاح تدريجيًا. في اليوم التالي، السبت 17 مارس، لم يعد يشعر بأي ألم، وكان يتحدث مع الصليب أمامه قائلاً: "يا رب، مش هقول لك غير زي ما قال لك أبو مقار الكبير: أنت تعلم يا رب أنه ما بقيت في قوة بعد". عند الساعة 5:15 مساءً، خرجت لثوانٍ معدودة، وعندما عدت مع الأطباء والآباء، وجدنا أن قداسته قد انتقل إلى السماء بهدوء وسلام. رغم أننا كنا مستعدين، إلا أن فراقه كان أصعب مما يمكن وصفه. مرت سنوات وما زلنا نتذكره بكل محبة، ونحاول أن نكون أوفياء لإرثه وتعاليمه.
البابا شنودة والأنبا أرميا وأبونا بولس