نواصل الحديث عن الشيخ سيد درويش، فنان الشعب، وذلك في ذكرى ميلاده، فهو من مواليد 17 مارس 1892، ونتأمل بداياته وتعلمه لفنون الموسيقى وعلاقته بالشيخ سلامة حجازي.
في كتاب "أهل البحر" لـ الكاتب الراحل محمد جبريل، فصل بعنوان "سيد درويش" يقول فيه:
أغنيات سلامة حجازي هي أول ما حفظ سيد درويش، وكان يحرص على حضور حفلات سلامة حجازي في مسارح الإسكندرية.
اشتغل مغنيًا في فرقة كامل الأصلي بمقهى إلياس بكوم الناضورة. أدى أغنيات سلامة حجازي، عندما حُلَّت الفرقة، عمل مغنيًا في مقهى "أبو راضي" بالفراهدة، لكن إقامته بها لم تَطُل. حاصرَته الظروف، فاشتغل مناولًا للبياض.
كانت معسكرات الإنجليز فوق كوم الدكة مشهدًا يوميًّا، يراه في هبوطه إلى أحياء الإسكندرية، وعودته منها.
ترك مقهاه في كوم الدكة. هبط إلى المدينة. تردد على المقاهي وأماكن الطرب.
التحق سيد بالمعهد الديني وهو في الثالثة عشرة. أتاح له اقتراب المعهد من البحر والجوامع والزوايا وأضرحة الأولياء ومقاماتهم، أن يشاهد الموالد وحلقات الذكر وحفلات الزفاف في ساحة المرسي أبي العباس. أنصت إلى التلاوات القرآنية، وإنشاد الموشحات، والقصائد النبوية، وأهازيج السحر، وتواحيش رمضان.
كان يرافق صديقًا له يعزف مع الفرق الأجنبية. يجلس إلى جانب صديقه مع أفراد الأوركسترا. يتابع بروفاتهم وألحانهم على الأوبرات العالمية وعروض الباليه.
لاحظ أنه يُطيل التوقف عند أصوات الباعة في نداءاتهم على ما يبيعون. يكرر النداء — بينه وبين نفسه — يُقلِّبه، يُعيد — بدندنة يسمعها هو — تلحينه.
عَمِل مؤذنًا لجامع الشوربجي بشارع الميدان، وشارك بتلاوة آيات القرآن، وإلقاء القصائد، ورواية السيرة النبوية، في المناسبات السياسية والاجتماعية، وفي السرادقات المقامة بالساحات أيام الأعياد، وفي البيوت والمقاهي والحانات. قلَّد القارئ الشيخ حسن الأزهري، وقلد غناء سلامة حجازي، وقرأ في الموالد، وفي الأفراح.
كان يُخلي الطريق — أحيانًا — لقدمَيه وأُذُنَيه وحاسة الالتقاط في داخله: نداءات الباعة، رفع الأذان من مسجد قريب، صرير عجلات الترام، صياح مجذوب يهزُّ مجمرة البخور، تلاقي صافرات البواخر في الميناء الغربية، زحام الموالد والجلوات، ألعاب الأولاد في الحواري والأزقة، أغنيات الصيادين عند سحب الجرَّافة، اختلاط أصوات الطيور على امتداد الساحل، إيقاع صحن العطارة في سوق الترك.
طرد المعهد سيد درويش لعدم مثابرته على التعليم. ورُويَ أن الحاجة المادية دفعَته إلى ترك المعهد، والعمل في مهن عديدة.
المصادفة — وحدها — بدَّلت حياته. رآه الأخوان سليم وأمين عطا الله، وهو يُغني — على السقالة — للفواعلية. عرضَا عليه العمل بفرقتهما، ومصاحبة الفرقة إلى حلب.
أمضى سيد درويش في رحلة سوريا عشرة شهور، عَمِل — بعدها — في مقهى «شيبان» بجوار حلقة السمك القديمة.
أراد الشيخ سلامة حجازي أن يستمع إلى سيد درويش.
قال سيد درويش لرسول الشيخ سلامة: أنا لا أنتقل من مكاني. إذا أراد الشيخ أن يسمعني، فليتفضل بالحضور إلى هذا المقهى.
رفض سلامة حجازي أن يُنصت لمن نصحوه بعدم الذهاب إلى سيد درويش.
التقيا في قهوة شيبان.
سأل سيد درويش، وأجاب سلامة حجازي. تحدَّثا في البشارف والرصد والبيات والهزام والصبا. غنَّى سيد درويش من ألحان سلامة حجازي ومحمد عثمان وعبده الحامولي، وغنَّى الكثير من ألحانه.
قال سلامة حجازي: أعجبتني ألحانك.
قال سيد درويش: الجمهور يحب ما أغنِّيه من ألحان غيري.
وتبدَّلت نبرة صوته: أظن أني سأسير في طريقك.
ضحك الشيخ سلامة: تظن أم أن هذا هو ما تريده؟
– أريده … لكن الظروف قد لا تساعدني.
– مَن يمتلك ألحانك الجميلة لا تشغله الظروف.
واحتواه بنظرة مشفقة: إذا طلبت نصيحتي، فلا تُغنِّ إلا ألحانك. ما لا يتذوقه الناس الآن سيُقبلون عليه فيما بعد.
ثم في نبرة محرِّضة: أنت صاحب ظروفك؟
أعاد سيد درويش السؤال: هل تنصحني بالسفر إلى القاهرة؟
قال سلامة حجازي في لهجة محملة بالإيماءات: كُن الفنان الذي تريده في أي مكان!