حازم حسين

حماس بين لعبة اللغة ولعنة المترادفات.. عن القوة والحكمة وهُدنة الـ10 سنوات فى غزة

الخميس، 13 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لُغتُنا مُتخمة بالترادفات، وربما عقولنا أيضًا. نخوض الشطرَ الأكبر من صراعاتنا داخل المعاجم، ونُبدّد جُلَّ طاقتنا على الكلام؛ لهذا كثيرًا ما نُضيِّعُ الدلالة لقاء الدالّ، ولا غروَ أن نُخفِقَ فى المبنى والمعنى معًا.

يقول نزار قبّانى إننا ندخلُ حروبنا بالخطابة، وبالطبلة والربابة، وتقطعُ الوقائع الماثلةُ أمامَنا بأنه لا خُطباء ولا طبّالون، مُجرَّد هُواةٍ فى صَنعتى الحناجر والخناجر، وما بين المخابئ والمنابر.. وإذ لا نعرفُ وصفًا دقيقًا لِمَا نتطلَّعُ إليه ونبتغيه؛ فالطبيعىُّ ألَّا نعرف الموصوفَ على وجه الحقيقة، وألَّا نعرفَ له طريقًا أيضًا.

يُغرَمُ اللغويّون بإنكار فكرة الترادُف من أساسها. يقولون إنَّ العربية ثريَّةٌ فى الجذور والمعانى، ولا كلمةَ تُطابِقُ أُختَها وإن تشابهتا. هكذا يُفترَضُ أنَّ سبعين اسمًا مثلاً للكلب تختلف فى دلالاتها، بين الخِلقة والهيئة والعافية والاعتلال؛ لكنَّ العابر من شارعٍ مُظلمٍ لا يعنيه أن يكون جَروًا أم وازعًا أم باقعًا أم سلوقيًّا وغيرها، المُهمُّ ألَّا يكون مسعورًا وأن يفهم عبارات الزَّجر، ويُبادِلَه الخوفَ الذى يُحقِّقُ الرَّدعَ والأمن للطرفين.

فى بادئ تجربة النهضة الصينية، كان البلدُ الزاحف ببطنٍ عظيم ومُلتصِقٍ بالأرض، يُناضلُ للخروج من تجربة الأب المُؤسِّس ماو تسى تونج، ومن غرامٍ بالشيوعية على معنى عقائدىٍّ مُغلَق. حقَّقت الرايةُ الحمراءُ استقلالاً صعبًا؛ لكنّها جرَّت ارتباكًا وارتكاسًا وعثراتٍ كُبرى، وكان من الواجب تنظيم العلاقة معها؛ إنْ لم تكُن القطيعة.

جاء دينج شياو بينج ليلعبَ الدور الإحيائىَّ للتجربة، ويُغيّر وجه البلد وعقيدته دون اتِّباعٍ خاملٍ ولا ابتداعٍ كامل، ومن مأثوره ذاك القول الذائع: «ليس مُهمًّا لون القطّ، أبيض أم أسود؛ طالما أنه يصيد الفئران».

الفكرة أنَّ الغاية مُقدَّمةٌ على الوسيلة. الدولةُ جهاز صلب، والأيديولوجيا نظامُ تشغيلٍ فحسب. تُقاس الأخيرةُ على الأُولى لا العكس؛ بمعنى أنَّ صلاحية الأفكار تتحدَّدُ بمقدار قدرتها على شحذ الطاقات وترقية الإمكانات.

شياو بينج كان يقصدُ الانفلات من قيود الماركسية فى طبعتها الماويّة، وأن يكون صينيًّا بأكثر من أن يُوصَف بالسياسات والألوان. النتيجةُ أنَّ التنّين الأصفر ابتكر وَصفَتَه الخاصّةَ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وصار تِنّينًا فعلاً، ويُنازع الغولَ الأمريكىَّ على قطبيَّة العالم، وقد يقتنصُها فى عقدٍ غير بعيد.

وإن كان الانعتاقُ من مذهبٍ سياسىٍّ يتطلَّبُ عقلاً ناضجًا وجهدًا دؤوبًا؛ فالكُلفة تتضاعف فى حال كان القَيدُ عقيدةً دينية. مركزيَّةُ الفكرة لا تسمحُ لأتباعها بالتداول فيها أصلاً، ولا تتركُ هامشًا لزحزحتها من المُستقرِّ إلى القَلِق، ومن اليقين للشك. وفوق هذا؛ فإنَّ لها أثرًا جانبيًّا ثقيلاً، بحجم ما تُوفِّره من طمأنينةٍ زائفة فى كثيرٍ من الأحوال، تُعلِّقُ بها الدنيا على الآخرة، وتُجوِّز تقصيرَ السواعد أو تُبرِّرَه تحت غطاء التعويض بالقلوب.

سرديَّةٌ ميتافيزيقية تتخطَّى الواقع، أو تُجبَر على تخطّيه بدَفعٍ من المُتحكِّمين فيها، والقابضين على تفسيرها، وبهذا يصيرُ القانون حاكمًا فى المجال العام دون شريكٍ ولا رقيب، ومن دون أن يكون معلومًا أصلاً، أو مُنضبطًا فى الرؤية والصياغة.
ليس الدين غريبًا عن الدنيا بطبيعة الحال، منها نشأ ولأجلها؛ لكنه يختلفُ عنها فى أنه يرهنُ كلَّ شىء على طاولة الموت. نُولَدُ ونعمل ونتكاثر ونحفظ آدميَّتَنا وعهودنا السماويّة لأجل القبر وضَمَّته؛ لكنَّ الحياةَ تأخذُ موقفًا مُضادًّا.

من زاوية المنطقِ تعرفُ قطعًا أنها آيلةٌ لذات المصير؛ لكنها تطلبُ الوجودَ لا العدم، وتُجَدِّفُ فى الاتجاه المُعاكس للعالم الآخر. غايتُها أن تُطيل العُمرَ وصولاً للخلود لو أمكن، بينما يتعثَّر الأُصوليّون فى أحكام التجميل وصَبغ الشَّيب ونقل الأعضاء، وكلّ ما يعتبرونَه، زُورًا، من قَبيل الاعتراض على قضاء الله.

والسياسةُ من حيث كونها اشتغالاً بأُمور العامة، وتقليبًا للحوادث على أصلح الوجوه المنظورة لا الغيبيَّة؛ فإنها من عمل الدنيا لا الدين، وتتلوَّثُ لو حَطَّ عليها الكَهَنةُ، وتُلوِّثُ المُقدَّس لو حَطَّت عليه. والتاريخ ملىء بالحكايات التى طفحت غَصبًا من أفواه الحكَّائين، منذ الفتنة الكُبرى وإلى سنة الإخوان السوداء فى مصر.

أمَّا الخطرُ الأكبر؛ فأنْ يقعَ الخَلطُ فى حال كربٍ، ومع غيبةِ القُدرة على الضبط والتصويب، وحينما تصير المُغامرةُ مُقامرةً كاملة. تُزاح قضايا الوجود للوراء لصالح فكرة، والفكرة تُختَزَلُ فى تيَّار، والتيَّارُ ينوب عن أجندةٍ، وما بدأ ساميًا رفيعَ الشان، ينتهى مطعونًا من القريب والبعيد، مُنحطّ القَدر ممسوس الصِدقيَّة، ومُهلهَلاً بين سُرّاقه بالغَصب، وسارقيه بالاستتباع.

الأنبياء موكّلون من السماء، ولا حاجة بهم إلى الأرض. يتجلّون عليها من عَلٍ، ويضيئون سُبلها المظلمة؛ إنما لا يستمدّون الشرعيّة من الناس، ولا يُفسّرون لهم الخفايا إلا بقدر التكليف، أو ما تحتمل عقولهم. ومأساة الحركات الدينية أنها تلبسّت عباءة النبوّة، لا من جهة الوعى والحكمة والإلهام الإلهى؛ بل ما يخص الاستئثار والطُهرانيّة، وادّعاء العصمة للتنظيمات والقادة.

الأيام الأخيرة أسفرت عن مُفاجأة مُركّبة، شطرها الأول أن الولايات المتحدة التقت قادة حماس فى الدوحة، وأدارت مفاوضات مباشرة مع الحركة المُصنفة على لوائح الإرهاب الأمريكية، ظاهرها البحث فى شأن الأسير مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر، والجوهر ربما يتّسع لكامل ملف الأسرى، والهُدنة القائمة منذ يناير الماضى، ومداولات تمديد مرحلتها الأولى أو الانتقال للثانية.

أفصحت واشنطن عن اللقاء، وقالت إن آدم بوهلر، مبعوث الرئيس الأمريكى لشؤون الرهائن، التقى خليل الحيّة وآخرين. كانت الحدث بكامله مُفاجئًا؛ لأنه يتناقض مع موقف الإدارة الأمريكية الصاخب تجاه حماس، ولأنه رُتِّب وانعقد من دون معرفة إسرائيل أو التنسيق معها، وأفضى إلى رسائل إيجابية مُتبادلة بين الطرفين، فضلاً عمَّا يُحتمَل من أمورٍ مُضمَرة لم تخرج للعَلَن.

وأهم ما ترشَّح من حصيلة المقابلة، أن «بوهلر» أشار إلى اقتراح تلقّاه من وفد حماس القيادى، يطلب التوصّل إلى هُدنة طويلة المدى بين المقاومة والاحتلال، حدّها الأدنى 5 سنوات قد تزيد إلى عشرٍ، مع التزام من جانب الحركة بوقف عملياتها العسكرية تماما، وعدم لعب أية أدوار سياسية فى غزة خلال تلك الفترة.

زِيد فى القول بشأن التفاصيل، أن المفاوضين الحماسيِّين ارتضوا بنزع السلاح تمامًا، ما اضطرّ الحركة للتعقيب من طرفٍ بديل، ونفى ما سِيق على لسان «الحيّة» حقًا أو كذبًا. ومع التسليم بأن الفكرة وجيهة فى ذاتها، ومطلوبة فورًا وعلى وجه الاستعجال؛ فإن الملاحظة نفسها تتكرر إلى حد الملل والابتذال: فريق يستأثر بالمجموع، ومركب يُطوّحها الرُبّان على هواه، ومن دون اعتبارٍ للرُكّاب أو احترام لرؤاهم.


للحق؛ فإن عنوان «الهُدنة» سواء كانت قصيرة المدى أو طويلة، يقضى بالضرورة أنها بين قوّتين مُتحاربتين، وليس بين مُسلَّح وأعزل، ما يعنى ضمنيًّا أن طلب الحماسيِّين لها لا يشتمل على إقرار بنزع السلاح ماديًّا؛ لكنه يُقرُّ بتحييده عَمليًّا فيما يُشبه الانتزاع. إذ العِبرة فى الفاعليّة لا الإمكانية، ومن وظائف القوّة أن تُحقِّق الرَّدع أوّلاً بما يمنع استخدامها أصلاً، ثمّ التوازُن إن اضطُرّ صاحبها إليها، وكلاهما لا يتحقَّق فى الوضع القائم بعد «طوفان السنوار»، ولا فى الهُدنة المطلوبة من ورثة صاحب المُغامرة.

كانت مخازن حزب الله مليئة بالصواريخ من كل الأنواع، ولطالما تباهى زعيمه الراحل حسن نصر الله بقدرته على الوصول إلى كل شبر فى إسرائيل، وعندما وقعت الواقعة مُنِع من تفعيل قواه، وحُرِّم عليه استخدام القذائف الاستراتيجية المُوجِعة. وقيل إن إيران احتفظت بشيفرات إطلاق الباليستى أصلاً، ما يجعل الميليشيا اللبنانية مُجرّد حارس على مخزنٍ.

النتيجة أن القُدرات التى ظلّ يُراكمها لأربعة عقود تبدّدت فى شهرين، وتساوى امتلاك القوّة مع فقدانها؛ لأنها ما ردعت العدو، ولا منعت الدمار عن الصديق. والحال؛ أن حماس عاينت لستّة عشر شهرًا أثر ما جنته على غزّة، وعجزت بقوّتها الذاتية أو بإسناد الشيعية المُسلّحة عن التصدِّى للنازية الصهيونية، وكبح الوحش الذى استنفرته من دونٍ استعدادٍ كافٍ، ولا انشغالٍ بالبشر والحجر من الأساس.

قُتل نصر الله وخليفته هاشم صفىّ الدين، وطابور لا حصر له من الحزب، وتضرّر لبنان فى كل مناطقه، وتكبّد خسائر بعشرات مليارات الدولارات، وما تزال إسرائيل تحتل خمس نقاطٍ عالية جنوبىّ نهر الليطانى، وتُعطل بالتبعية أية طموحات بشأن التعافى وإعادة الإعمار. وفى المقابل؛ يتمسَّك نعيم قاسم بسرديّة النصر كما كان سلفه وافر الكاريزما، ويُلوّن الواقع بالوهم، ويلعب على تُخمة الترادفات من أجل التلبيس على حاضنته وعامة الناس؛ إذ طالما أن المقاومة لم تمُت فالعدو لم ينتصر، وطالما أنه لم ينتصر فإننا لم نُهزَم، وطالما لم نُهزَم فقد انتصرنا.

ومن الشمال للجنوب، تختلف النكبة ولا يختلف التدليس. يرى الحماسيون أنهم انتصروا لمُجرّد أن نتنياهو لم يقضِ على الحركة، وكانت خالد مشعل مُتبجحًا لدرجة اعتبار كل الخسائر الباهظة مُجرّد آثار جانبية. يُدَّعى النصر على رُكام وأشلاء؛ فيستميت نازيو تلّ أبيب فى قرع الطبول وإطلاق نفير الحرب الدائمة. كان السلاح عاجزًا عن إحراز النديّة، وصار عاطلاً تماما؛ وما الإصرار على وضعه فى المُعادلة سوى تبرير ضمنىٍّ لإبقاء النار مُتأججة، وتغطية وحشيّة المُتوحّشين بالعاطفية والدعايات الساذجة.

يُلمِّح فريق من حماس إلى إمكانية النظر فى كل العناوين، ويشدِّد آخرون على أن سلاح الحركة ووجودها ومستقبلها السياسى «خطوط حمراء». وإذ يُمكن أن يُحمَل التضارُب فى سياقات طبيعية على المُناورة، وتوزيع الأدوار بغرض ترشيق قدرات التفاوض وصولاً لأفضل المكتسبات؛ فإن مناخ الأزمة الراهنة لا يسمح بتفسيرها من جهة الحيلة والدهاء؛ بل يشى بانقسامٍ أفقىٍّ داخل الفصيل الواحد؛ بعدما تكفّل منذ نشأته، وخلال آخر عقدين على وجه الخصوص، بتقسيم البيئة الفلسطينية عموديًّا.

ثمّة جناح ينتمى للجمهورية الإسلامية أكثر مِمَّا يحفل بفلسطين وناسها، أو محيطها العربى اللصيق، وهؤلاء يتشدّدون فى السلاح وسرديّة المقاومة والنصر، ويعتبرون أنهم عضو فى جسدٍ وليس له اختيار أو قرار، وثمّة فريق يُبقى على وشائج الحركة القديمة مع الإخوان ورُعاتهم الإقليميين، وينتمون للفكرة التى كانت سائدة فى زمن الربيع العربى، وتلك الفئة تنظر للمشهد ببراجماتيّة لازمة، وتُريد استنقاذ ما تبقّى، وإفساح مُهلة للتعافى وإعادة ترميم القُدرات على خطّ الزمن.

كلاهما يحمل الراية الخضراء، ويتحدّث لُغة عقائدية مُتكلّسة؛ إنما لو شققت عن قلبه ستجد راية فارسية أو عُثمانية، وقد لا تجد فلسطين من الأساس. تضارُب المواقف أنتج الطوفان بإرادة سنوارية خالصة، ودون استئذان القيادة السياسية العليا أو إخطارها، وهو نفسه الذى أفسد مُداولات الهُدن طوال شهور، وعطَّل نزول الحركة على مُقترحات الخروج من مشهد الحُكم وتحييد السلاح؛ لكنها فى الوقت ذاته تُجالس الأمريكيين، وتمنحهم ما رفضت أن تُقرّ به للسلطة الوطنية أو مع الوساطة العربية.

ليست خيانةً ولا خديعة؛ لكنه المكر الساذج على الطريقة المُعتادة من الإسلاميين. يُبرم حزب الله اتفاقا مُخجلاً مع إسرائيل؛ لكنه يستأسد على الدولة والشركاء. وتنزل حماس لواشنطن وتل أبيب عمَّا تستكثره على رام الله. إنه الانشغال بالمظهر لا الجوهر؛ لنُهزَم فى الغُرف المُغلقة طالما ظلّت سرديّات العَلَن فوّارة بالنصر، لنضع السلاح جانبًا إنما تحت عنوان التحييد لا الإلقاء، لنخرُج من الحُكم من أجل نجاة التنظيم؛ لكن لا مانع من المُزايدة العاطفية على منصة تسليم الرهائن بعبارة «نحن اليوم التالى».

أخطأت حماس فى حق نفسها بترك القرار فى يد السنوار، وأخطأت فى حق الغزّيين بالطوفان، وفى حق فلسطين بالإدارة السيئة جدا لشهور الحرب، وتُخطئ اليوم كلّما انصرفت عن مأساة الأرض إلى بلاغة اللغة، وكلّما تمسّكت بالمظهر على الجوهر، وبمصالحها على حساب القضية والناس. إن كان السلاح عبئًا فليُنزَع، وإن كان ظهورها ذريعةً فليكن الاختفاء، وإن كانت الضمير مُستقيمًا فلتتوقف عن اللعب باللغة، والرقص بين المُترادفات.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة