حسين حمودة

التفاعل الجمالى بين القصة والحكاية

الخميس، 13 مارس 2025 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

التفاعل بين تقنيات القصة القصيرة وجماليات الحكاية، الشعبية بوجه خاص، يمثل مدخلا مهما لفهم معالم كثيرة فى التجربة القصصية العربية، وطرائق تعاملها مع القصة القصيرة الغربية باعتبارها نوعا من الأنواع الأدبية الوافدة، كما يمثل هذا التفاعل وسيلة لاستكشاف الصلة بين الأدب العربى الحديث، من جهة، والموروث الحكائي القديم الممتد، من جهة ثانية.

القصة القصيرة الحديثة فن فردى كما نعرف جميعا، وقد ارتبطت تاريخيا بتقنيات فنية لا تخلو من مراوغة، أو على الأقل تستعصى على الثبات (رغم التنظيرات المتعددة لقواعد فن القصة القصيرة).. والحكاية الشعبية فن جمعى، وربما لها جماليات ومعالم فنية أكثر وضوحا، كما أن لها ملامح تجعلها أكثر طواعية واستجابة لمحاولات استكشاف سمات و"ثيمات" راسخة لها.. ولعل من الدلائل على هذا المعنى الأخير ما قام به الباحث الروسي فلاديمير بروب، من استكشاف لنموذج بنائي شبه ثابت ينهض عليه عدد كبير جدا من الحكايات الشعبية المتنوعة، وذلك في مثاله الوظائفى الشهير، الذي صاغه في كتابه، الشهير أيضا، (مورفولوجيا الحكاية الخرافية ـ أو مورفولوجيا الحكاية العجيبة).

على كل حال، وأيا كانت أوجه التلاقي أو التباعد بين القصة القصيرة والحكاية الشعبية، ومدى حضور جمالياتهما في مسيرة الكتابة القصصية المصرية والعربية.. يمكن ملاحظة وجود ما يشبه تيار أو "خط إنتاج"، بدأ مبكرا، وتنامى، ولا يزال يتنامى، فيه مضى عدد من كتاب القصة القصيرة باتجاه استلهام أو تمثّل جماليات الحكايات الشعبية في كتابة قصصهم القصيرة.

في مصر، مثلا، وضح هذا الاتجاه مع عدد من التجارب القصصية التى تنتمى إلى تواريخ مختلفة، تبدأ من التحققات المكتملة لهذا الفن، فى عشرينيات القرن الماضى، مع محمود طاهر لاشين، أحد كتّاب "المدرسة الحديثة" التى تعتبر واحدة من أهم محطات تطور القصة المصرية.

فى قصة "يحكى أن" لـ محمود طاهر لاشين (التى نشرت فى صحيفة "الفجر" عام 1925، وأعيد نشرها فى مجموعة "يحكى أن" بعد ذلك، وقد وهبت المجموعة عنوانها) يمكن أن نلاحظ استلهاما أو تمثّلا واضحا للحكاية القديمة، بدءا من عنوان القصة ومرورا بالبناء الذى تنهض عليه، وانتهاء بتجسيد الأمثولة التي يتحلّق حولها سرد القصة وتناولها كله، خصوصا خاتمتها الأخيرة.

بجانب تجربة محمود طاهر لاشين يمكن أن نجد هذا التوجه واضحا أيضا في قصص رفيقه وصديقه يحيى حقي (في كثير من قصص مجموعتيه "دماء وطين" و"عنتر وجولييت").. ثم، مع مسافة زمنية، يمكن ملاحظة تجربة قصصية كبيرة ارتبطت باسم يوسف إدريس، وكتاباته القصصية تعد نقلة كبيرة في التوجه ذاته الذي صاغه الرهان على استلهام الحكى الشعبي الحيّ، خصوصا في مجموعاته المبكرة، وعلى رأسها (أرخص ليالي).

بعد تجربة يوسف إدريس كانت هناك كتابات تالية لعدد من الكتاب: يحيى الطاهر عبد الله (في قطاع كبير من مجموعاته القصصية، وخيري شلبي (في أغلب قصصه القصيرة، خصوصا مجموعته "ما ليس يضمنه أحد")، عبد الحكيم قاسم (في بعض قصص مجموعتيه "الأشواق والأسى" و"الظنون والرؤى")، وصبرى موسى (بعض قصص مجموعته "حكايات صبرى موسى" ـ لاحظ العنوان ـ ومجموعته "مشروع قتل جارة")، محمد روميش (بعض قصص مجموعتيه "الليل الرحم" و"الشمس فى برج المحاق")، فؤاد قنديل (بعض قصص مجموعته "سوق الجمعة")، سعيد الكفراوى (بعض قصص مجموعاته "ستر العورة"، و"مجرى العيون" و"دوائر من حنين")، محمد المخزنجي (في نصه "حيوانات أيامنا")، يوسف أبو رية (بعض قصص مجموعاته "الضحى العالى" و"عكس الريح" و"وش الفجر" و"الريفى")، حسام فخر (أغلب قصص مجموعته "حكايات أمينة") ـ ولاحظ العنوان، سيد الوكيل (بعض قصص مجموعته "فوق الحياة قليلا")، محسن يونس (بعض قصص مجموعتيه "الأمثال" و"يوم للفرح")، حسين خليفة (بعض قصص مجموعته "بينى وبينك مواعيد كثيرة")، محمد إبراهيم طه (بعض قصص مجموعتيه "توتة مائلة على نهر" و"الركض فى مساحة خضراء")، محمد رفيع (بعض قصص مجموته "أبهة الماء")... وغيرهم..

نهض عالم القصص التي مضت في هذا التيار على تبنى تصورات جمالية متعددة، مستلهمة من جماليات "الحكايات": حضور صيغة "الحكّاء" التي تزاحم أو حتى تزحزح صيغة "الراوى"، العبارات التي تقيم تواصلا بين من يحكي ومن يحكى له، صياغة الزمن المجسّد الملموس، الطبيعى الفولكلورى، الموصول بمفردات الطبيعة، وليس زمن الساعة المجرد، النهوض على البنية الثلاثية الشهيرة (وضع أصل ـ وضع جديد ـ عودة إلى الوضع الأصل)، والصياغات السردية التى تتأسس على علاقات "سمعية" خالصة تحيل إلى الثقافة الشفاهية والتواصل الحي بين من يحكي ومن يحكى له.

وظاهرة استلهام أو تمثل القصة القصيرة لجماليات الحكاية لا تقتصر على الكتابة المصرية فحسب، فثمة نصوص قصصية عربية متعددة، ومنها مشروعات متبلورة، سارت بطرائق متنوعة فى الوجهة نفسها..  وكثرة من نصوص كتّاب مثل: زكريا تامر، والطيب صالح، ومحمد خضير، ومحمد زفزاف، وأحمد بوزفور، وغيرهم كثير.. تقدم أمثلة جلية على هذا المنحى.

كثرة الأسماء، هنا، تشير إلى أننا إزاء ما يشبه "التيار"، أو على الأقل إزاء مسار كبير ممتد...  وانتماء بعض هذه النصوص إلى هذه السنوات القريبة يومئ إلى أن الكتابة القصصية التي مضت في هذا الاتجاه لا تزال متصلة مستمرة، مراودة، وقادرة على أن تؤتى ثمارا حتى الآن.. وكلها مرتبطة بالسعى لتطويع فن القصة القصيرة، الفردي، الحديث والوافد، لجماليات الحكاية الشعبية، الجماعية المحلية، المستندة إلى موروث ممتد، وأيضا متجدد..







مشاركة



الموضوعات المتعلقة

أفلام الكوميديا المميتة

الخميس، 20 فبراير 2025 08:02 م



الرجوع الى أعلى الصفحة