مايكل فارس

معاوية وثوب المسيح وحرب السرديات

الأربعاء، 12 مارس 2025 06:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تعد "الموثوقية التاريخية" فيصًلا هامًا لاعتبار أن حدثًا ما قد تم فعًلا، الأمر الذي يحتم وجود مصادر متعددة توثقه سواء معاصرة أو قريبة منه زمنيًا، مثل الوثائق الرسمية، الرسائل، اليوميات، الآثار، العملات، رغم أن المخطوطات القديمة ربما لا تعكس بالضرورة الموضوعية، فقد ينحاز الكاتب لدائرته التي ينتمي لها، أو يكتب ما يظن أنه حقيقة، أو وفقًا لتصوره الخاص عن المرحلة، أو تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية أو دينية بإثبات شيء ما، إلا أنها من أهم المؤشرات لبحث الحدث، كما أن وضع الرواية في مواجهة العلوم الأخرى الحديثة المتخصصة كالأركيولوجيا والكوديكولوجيا والمسكوكات وغيرهم أمرًا حتميًا لجمع الأدلة واكتشاف صورة أدق وأعمق من تلك المروية من جهة واحدة.

حرب السرديات

الأمر ذاته ينطبق على السرديات الدينية للأحداث التاريخية، فالعلوم الحديثة فتحت آفاقًا جديدة لفهم صورة أشمل وأدق عما حدث قديمًا، قد تتفق مع السرديات الدينية، ولكن الأزمة حين تختلف. وحدث ذلك حين تمكنت "القوى العربية" الصاعدة في مطلع القرن السابع الميلادي، من تأسيس إمبراطورية جديدة، على أنقاض ضعف الإمبراطورتين الساسانية والرومانية "البيزنطية"، ذاك الصعود الذي غير مجرى التاريخ حتى الآن. لم يعد في استطاعة الإمبراطوريتين المنهكتين صدها، فتساقطت أراضيهما واحدة تلو الأخرى لتصبح في حيازة القوات العربية الصاعدة.

ويمكن تقسيم السرديات التي أرخت لتلك الحقبة إلى فئتين، الأولى، سأطلق عليها "السرديات المعاصرة" للأحداث أو قريبة منه زمنيًا، وتشمل تنوعًا دينيًا ومذهبيًا وعرقيًا ولغويًا، وكتبها المؤرخون المعاصرون للأحداث من مختلف الشعوب مثل السريان والمارونيين والأرمن والفرس والرومان والأٌقباط واليهود.


وهناك سردية إسلامية أخرى سأطلق عليه "السرديات المتأخرة" كُتبت في العصر العباسي بعد منتصف القرن الثامن الميلادي والتي عرفت بـ"عصر التدوين"، أعقاب انهيار دولة الأمويين، وأبرز كتابها الطبري وابن قتيبة والبلاذري، وكُتبت بأثر رجعي.

السرديات المعاصرة للتوسع العربي، نادرًا ما ذكرت ما عَرفَتّه السردية العباسية بـعصر الخلفاء الراشدين، الذي امتد لـثلاثين عامًا، بدءًا من 632 حتى 661 م، فخلال توثيق الشعوب المحيطة في سوريا والعراق وبلاد فارس والرومان ومصر وشمال إفريقيا، لم يذكروا اسم قيادة مركزية أو اسم خليفة يحكم كل العرب الذين أسموهم "الهاجريون أو الإسماعيليون أو السراسنة"، وكان يكتفى بعبارة الأمير الإسماعيلي أو أمير التاجيك كتوثيقات الأرمن، أو أمير الساراكينوس لدي الرومان، أو "عرب محمد" كتوثيقات الفرس. بينما أرخّوا بوضوح مع تأسيس معاوية بن أبي سفيان لدولته وسيطرته على مقاليد الحكم ليشكل أول حكم مركزي معروف لديهم، وأكدوا بدقة أنه ملك العرب جميعًا، الأمر الذي يعكس عدم معرفتهم بمنصب "الخليفة" الذي يقابل الإمبراطور في الإمبراطوريات المعروفة كالفرس والرومان، أو أن السلطة الفعلية كانت لا تزال محلية وموزعة بين العرب قبل صعود معاوية بن ابي سفيان، وهو ما يتضح جليًا في السرديات التي تتحدث عن وجود أربع مراكز قوي متحاربة ولكل منها مناطق نفوذ.


في حرب السرديات، ظهرت مخطوطات قديمة عرفت باسم "تاريخ الأرمن"، للمؤرخ الأرمني غيفوند الذي عاش في القرن الثامن ميلادي، وهو شاهد عيان على الحروب العربية مع الفرس والرومان، ويغطي أحداثً تاريخية منذ القرن السابع حتى الثامن، وذكر نصًا خلاله أسماء ومدد حكم الخلفاء الراشدين، بينما بعد فحصها علميًا تبين أن ما كُتب عن الخلفاء الراشدين وأحداث أخرى في العهد الأموي تم إدراجها في القرن إما الـ11 أو الـ12 م.

معاوية بين السرديات المعاصرة والمتأخرة

نسبت السرديات المتأخرة أصل معاوية بن أبي سفيان لقريش وجده أمية بن عبد شمس، وأنه كان واليًا على الأردن ثم الشام، بينما ربطت تفسيرات أخرى اسمه باسم مهاويه مزربان مرو، قبيل سقوط الفرس، وبعيدًا عن السردية الشيعية التي تراه استولى على شرعية "آل البيت" في الحكم، وانحرف عن نهج الخلافة الراشدة، وعن السرديات السنية، التي تراه عكس ذلك، وأنه كان عادًلا في مطلبه بالقصاص من قتلة "عثمان"، وبعيًدا عما كتب "لاحقًا" في العصر العباسي، سأتناول هنا سرديات مغايرة، فكيف كتب عنه المؤرخون المعاصرون له ولحكمه، وكيف أدار الدولة وكيف رآه المسيحيون.

أولى الإشارات لمعاوية كانت في الحوليات المارونية – السجلات- هي مخطوطات معاصرة له، كتبت بين أعوام 660-665م، تنسب لطائفة المارون المسيحية عاشت آنذاك غرب العراق وشرق سوريا، أي خلال فترة ولادة الإمبراطورية الأموية، وجاء فيها: "قتل حذيفة ابن أخت معاوية وذبح على بينما كان يصلي في الحيرة...، وذهب معاوية إلى الحيرة وتلقي البيعة من كل الجيوش العربية هناك..."، وهنا يبرز اختلافًا واضحا بين السردية المعاصرة التي نسبت الأحداث  إلى للحيرة مقر حكم المناذرة السابق، والمتأخرة التي نسبتها إلى الكوفة، وقد بنيت تاريخيا لاحقًا بعد الحيرة. 

انتصار معاوية في معركة صفين

ويبرز  خلاف آخر في نتائج معركة صفين بين معاوية وعلي بن أبى طالب رضى الله عنه. وفق السرديات المتأخرة لم يحقق أيًا منهمًا نصرًا حاسمًا فيها ولجأوا للتحكيم، بينما في مخطوطة جورج الرشعيني 680 م، يقول فيها:" أنا جورج من رشعينا تلميذ سوفرونيوس أسقف القدس ادًون هذه السجلات للمؤمنين وهي تمثل ما رأيته وسمعته وأخذته من أشخاص جديرو التصديق...، عندما رأي ماكسيموس أن روما قبلت مستنقع تجديف القذر ذهب إلى القسطنطينة أيضا، في الزمن الذي عقد فيه معاوية سلاما مع الإمبراطور كونستانس - قسطنطين الثاني- وبدأ حربا مع أبي تراب أمير الحيرة في صفين وهزمه".  وهنا يكشف النص عن فوز معاوية في الحرب وكنية على بن أبي طالب المعروفة لدى الشعوب وهي "أبي تراب"، كما تم وصفة بـ"الأمير"، وليس ملك أو حاكم أو خليفة، وأن معاوية عقد السلام مع الإمبراطورالروماني ليس بصفته واليًا يؤتمر من أحد، بل حاكمًا مستقلاً، وهي الإشارة المتكررة في الوثائق المعاصرة التي لم تعرف رئيس قيادة مركزية مباشرة للقوى العربية الصاعدة قبيل معاوية.

ومن أهم المراجع التاريخية هو كتاب "تاريخ هرقل" لمؤلفه المؤرخ سيبيوس أسقف أرمينيا، عاش في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي650 م، وكان مطلعًا على الوثائق الهامة في أرمينيا والإمبراطورية الرومانية الشرقية "بيزنطة"، كما أكد أنه أخذ معلومات أيضًا من شهود العيان والأسرى الهاربين من الحروب، ويؤكد انتصار معاوية في الحرب الأهلية العربية الأولي 654-661م وكتب عنها إنها تتضمن أربع أطراف واحد في الشرق -علي- وواحد في سوريا والشمال -معاوية- والأخر سيطر على مصر، والرابع سيطر على بلاد العرب وعلى موضع يسمى عسكرون –  قد يكون  ترجمة خاطئة لاسم البصرة، كما أن الاسم مرتبط بـاسم جمل عائشة "عسكر"– ويستكمل، اتحد أولئك الذين من مصر وبلاد العرب وقتلوا ملكهم -عثمان- ونهبوا الكنوز الملكية ونصبوا ملكًا أخر -علي-.

كما يذكر غزو القسطنطينية ويتحدث عن هجوم واحد لا حصار كبير وأن الهجوم وقع في السنة الثلاثين من حكم كونتساتس – قسطنطين الثاني – كما تحدث عن انهيار السلام بين معاوية كونستانس قائًلا:"حالما عزز معاوية سلطته نقض السلام مع الرومان ولم يقبل به بل قال إذا أراد الرومان السلام فعلهم تسليم أسلحتهم ودفع الجزية".

تنصيب معاوية في كنيسة القيامة

كان معاوية سياسيًا بارًعا، فأظن أنه سعى جاهًدا للتقرب وكسب ود سكان سوريا المسيحيين ذوى المذاهب المتعددة، لضمان توطيد حكمه بعدة طرق منها تقربه من صلاة المسيحين، فقد جاء بمخطوطات سريانية  مكتوبة بين 658 -664 م، ومحفوظة بالمكتبة البريطانية وهي مخطوطات معاصرة: "تجمع الكثيرين من العرب في القدس وجعلوا معاوية ملكًا وصعد ونُصّب في الجلجلة – في كنيسة القيامة - وصلى هناك وذهب إلى جثسيماني - بستان صلى فيه المسيح- ثم نزل إلى قبر مريم المباركة وصلى فيه"، وجاء أيضا:" في يوليو من السنة -661 م-  نفسها تجمع الأمراء والكثير من العرب وقدموا ولاءهم لمعاوية، ثم أصدر أمر بأنه سينادي به ملكًا على كل قرى مملكته ومدنها، وأن عليهم أن يهللوا ويدعوا له، وقام أيضا بسك نقود الذهب والفضة لكنها لم تقبل إذ لم يكن عليها صليب، ولم يلبس معاوية تاجا مثل الملوك الآخرين في العالم وجعل عرشه في دمشق ورفض الذهاب إلى مدينة محمد".

معاوية يعقد مناظرات بين المذاهب المسيحية

شارك معاوية في حضور مناظرات بين المذاهب المسيحية أيضًا، فتذكر الحوليات المارونية:" انعقدت مناظرة بين اليعاقبة والمارونيين -مذاهب مسيحية- بحضور معاوية وعندما هُزم اليعاقبة أمرهم معاوية بدفع عشرين ألف دينار وهكذا أصبحت عادة لدى الأساقفة اليعاقبة أن يدفعوا كل سنة ذلك المبلغ من الذهب لمعاوية لكي لا يتخلى عنهم".

العدل في عهد معاوية

وعن إدارة معاوية بن أبي سفيان للدولة خاصة في ظل التنوع الديني والمذهبي، ذكر يوحنا بن الفنكي وهو راهب سرياني بشمال غرب العرق وسطر كتابه "النقاط البارزة"سنة 687م، وتحدث فيه عن معاوية قائًلا:" ازدهر العدل في زمنه وكان سلام عظيم في المناطق التي يحكمها وسمح للكل أن يعيشوا كما يريدون .. لم يكن ثمة تمييز بين الوثنيين والمسيحيين ولم يُعرف المؤمن من اليهودي".

معاوية وثوب المسيح

ذكرت "حولية أركولف" وهو أسقف أصله من بلاد الغال -فرنسا- وأقام في القدس 9 أشهر وكتب سجلاته في سبعينيات القرن السابع، وقال فيها إنه سمع قصة بشأن معاوية وقصة ثياب المسيح حدثت عام 680م، رواها له بعض سكان القدس المسيحيين، ويروي أن سرق يهود ثياب المسيح من قبره بعد قيامته ثم سُلمت من جيل لآخر ضمن هذه العائلة اليهودية أولا، ثم ضمن يهود غير مؤمنين مع أنهم تعاملوا باحترام معها لكن اليهود غير المؤمنين بدأوا بالجدل مع اليهود المؤمنين حول ملكية الثياب وتقدمت الفئتان المسيحيون واليهود بالتماس لمعاوية ملك السراكين الذي أمر بإشعال النار  مبتهلا إلى المسيح مخلص العالم ورمي الثياب في النار فطفت نحو الأعلى ثم نزلت بين المسيحيين".







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة