فُتح الباب على مصراعيه فى غضون ساعات؛ بعدما كان مغلقا تماما، أو شبه مغلق طيلة الأسابيع الماضية. اتصل المنقطع بين دمشق والحسكة، ولكلّ فريق غايته من الاتصال قطعا، وما يُضمر فى نفسه وراء الظاهر منه قولا وسلوكا؛ إنما تظل الخطوة شديدة الأهمية والتأثير من دون شك، ويمكن أن يُبنَى عليها ما يتجاوز طاقة كلّ طرفٍ بمُفرده، وما يكفى لانتشال سوريا من دراما سوداء، وتعبيد طريقها نحو إعادة بناء الدولة على ركائز قويمة، والأهم تهيئة المجال العام لتخليق التوازنات من داخلها، بدلا عن التبعية المتسلطة عليها بالكامل، من أصغر ميليشيا فى الأطراف، إلى عقل السلطة فى قصر الشعب.
بشكل مفاجئ تماما، أعلنت الرئاسة السورية عن توقيع اتفاق بين الرئيس المؤقت أحمد الشرع/ أبى محمد الجولانى قائد ميليشيا هيئة تحرير الشام الإرهابية، ومظلوم عبدى قائد قوات سوريا الديموقراطية. صحيح أن الحوار بينهما لم يكن غائبا بالكُلّية؛ لكن الوفاق بدا بعيدا، وغابت الإشارات عن قُرب التوصل إلى مساحة مشتركة، فى ظل رغبة السلطة الجديدة فى ابتلاع الدولة ومرافقها بالكامل، ورفض الإدارة الذاتية الكردية النزول عمَّا جنته من مكاسب منذ اندلاع الحرب الأهلية، ومن عمق الشقاق وتنازع الرؤى يتكشّف حجم المفاجأة، وقيمتها أيضا.
بيد أن الخطوة فى جوهرها تنتمى لآخرين بأكثر من انتمائها السورى. ومثلما كانت إطاحة النظام حصيلة التلاقى بين إرادات إقليمية ودولية عِدّة؛ فالاتفاق المُبهَم وغير واضح المعالم يعود غالبًا إلى ذات النبع. لا سلوكيات العصابات السُنيّة القافزة على الحُكم تُشير إلى انفتاح حقيقى، أو استعدادٍ لإشراك الآخرين فى المشهد، ولا تبدّلت الأحوال بما يُقنع الأكراد بالتغاضى عن اشتراطاتهم القديمة. كأنهما تلقّيا أمرًا بالجلوس معًا فجلسا، وبالتوقيع فوقّعا، وما وراء ذلك مبنىً ومعنىً مُجرّد تفصيل عابر.
يقع الطرفان تحت ضغوط ثقيلة من الداخل والخارج، ولدى كلٍّ منهما حزامُ دعمٍ لا يُمكن القفز عليه أو المُغامرة بإغاظته. تبدّلت تركيبة الوصاية وحصصها فى الشام؛ لكنها ما اختفت ولا خلّت البلد والناس يُديرون صراعاتهم من مراكز مُتكافئة نسبيًّا. وعليه؛ فالربح والخسارة محكومان بالرُّعاة لا اللاعبين المباشرين، ويُمكن أن يفوز الأضعف أو ينكسر الأقوى، بحسب ما يُقَرّ ويُتَّفَق عليه وراء الحدود.
كان البعثُ وحكومته ذيلاً للشيعية المُسلّحة، وأطاحته ميليشيات من رحم العثمانية الجديدة. الكُرد لهم وشائج قوية مع الأمريكيين، والدروز يتقاطعون جغرافيا وعِرقيًّا مع الجولان المُحتل، وتُهدِّد إسرائيل بالتدخل إزاء أى تعدٍّ عليهم.
العَلَويّون وحدهم حُسِبوا على الطرف المهزوم، ووُصِموا بوصمة العائلة الأسدية مع إيران، فكان يسيرًا على رجال الجولانى أن يُنكّلوا بهم؛ ليس لأنهم يفتقدون للفعاليات العسكريّة المُنظّمة كما فى القامشلى والسويداء؛ إنما لأنهم لا يعنون أحدًا من الفاعلين فى مصير البلد، ولا ظهير يحرس مصالحهم أو يُجنّبهم عدوان المُعتدين.
هذا ما تراءى للإرهابيين فى حفلة الدم على الساحل السورى؛ لكن فظائع القتل على الهُويّة وتصفية النساء والأطفال فى بيوتهم، كانت أكبر من أن تمرّ مرور الكرام، فأزعجت العالم واستجلبت النقد والاستهجان والسعى لإثارة الملف فى مجلس الأمن. تفتّق ذهن الجولانى، أو رُعاته ومُشغّليه، عن صَرف الأنظار لزاوية أُخرى، والتغطية على قُبح الحُكم فى اللاذقية وطرطوس، بتجميل وجهه الدميم فى شمال وشرق البلاد.
جاء الاتفاق الأخير فى ثمانية بنود مُوجزة، أهم ما فيها الحديث عن المواطنة والحقوق الدستورية، وتعميق المشاركة السياسية على معيار الكفاءة وبمعزلٍ عن العِرق والدين، ثم النص على وقف إطلاق النار على كل الأراضى السورية، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية الكُردية ضمن إدارة الدولة، وضمان عودة المُهجّرين لأماكنهم، ورفض خطابات الكراهية والتقسيم ومحاولات بث الفتنة بين المكونات الاجتماعية.
تبدو اللغة المستخدمة من خارج أُفق السلطة الجديدة تمامًا، صحيح أن الجولانى من أكثر الناس حديثًا عن الانتقال السلمى، وعن ضرورة العبور من الثورة للدولة، وأولوية إرساء مؤسسات حُكم عصرية وقادرة على التصدّى لالتزاماتها؛ لكن الممارسة تنقطع تمامًا عن الأقوال، ولم يُضبَط هو أو أى من مُعاونيه بالحديث الصريح هكذا عن الكفاءة، وعن تحييد الأعراق والأديان.
يتحدّث مع كثيرين، ويُقرّر داخل تياره فقط، وما يزال مُستأثِرًا بالإدارة كاملة وصابغًا إيّاها بلونٍ واحد. لم يستخدم الديمقراطية فى حديثه على الإطلاق؛ لكنه وقّع ورقته الأخيرة مع طرفٍ تلمع المُفردة فى اسمه، وسيتشبّث بها نُطقًا وفعلاً فى الغالب، كما لا شىء من المكتوب والمسكوت عنه يشى بأن الأكراد تخلّوا عن شروطهم السابقة.
لم يكن الخلاف على الدولة الواحدة، ولا حتى أن تتولّى سُلطة الأمر الواقع مهام الحكم فى الفترة الانتقالية. يُريد الكُرد إدامة إدارتهم الذاتية لمناطقهم، أكان بفيدرالية صريحة أو بصيغة لا مركزيّة، وأن ينخرطوا فى الجيش تحت عنوان واحد، بمعنى أن تبقى وحداتهم مُميّزة دون تذويب كامل.
يرفض الجولانى لأنه يخشى من أى كيانٍ مُتماسكٍ، وللحقّ فالدولتيّة السليمة تتأبّى ذلك؛ لكنه لم يستوفِ أى شىء على الإطلاق من جوهر الدولة أصلاً؛ ليتوقّف أمام هُويّة «قسد» ورغبتها فى السباحة مع سوريا الجديدة داخل فقّاعة كُردية.
تبدو الخلافات جذريّة وغير قابلة للحَسم. استُبعِد الأكراد من مؤتمر النصر أواخر يناير الماضى، وفيه أُعلِن الجولانى رئيسًا مؤقّتًا بتوافق الميليشيات السنيّة حصرًا. استُبعِدوا أيضًا من ترتيبات الحوار الوطنى، ومن أجواء صياغة الإعلان الدستورى المؤقت. لكنهم بين ليلة وضُحاها حلّوا فى القصر حُلول المُنتصرين، وقف مظلوم عبدى رأسًا برأس مع «الشرع»، واعتُرِف له بكيانيته المُستقلّة إذ يُوقع بصفته قائدًا لقوات سوريا الديمقراطية.
دُفِع الحُكم الجديد إلى شىء من المُهادنة غالبا، وبأثر جنايات الساحل السورى وما ولغ فيه من دم الأبرياء والمدنيِّين العُزَّل. يُحاول الإيحاء بأنها لم تكن مُشكلة طائفية، بدليل أنه يتصالح مع مُكوّن أكبر وأقوى وأكثر حضورًا وسيطرة على الأرض. يغسل دم العَلويِّين بابتسامات الأكراد، ويحتال بالاتفاق على الزمان والمكان، وغدا سيكون لكل حادثٍ حديث.
ما تزال «قسد» تحت مظلّة واشنطن، وثمّة شواهد على رعايتها لاتصالات الساعات الأخيرة. قبل يومين فقط من الاتفاق حلّ مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأمريكية «سنتكوم» ضيفًا على شمال شرقىّ سوريا. تبدّدت طموحات أنقرة على ما يبدو فى أن يرفع ترامب يده عن أكراد الشام، وعجزت ميليشياتها الموالية فى الجيش الحُر عن دحرهم، وألقت تطورات الساحل بظلالٍ كابية على مستقبل استثمارها فى سُلطة دمشق، بينما تصّاعد المخاوف إزاء الجنوب، لا من جهة الصهاينة وتحرّشهم المُتّصل فحسب؛ بل لناحية التهديد الماثل بتفسُّخ النسيج الاجتماعى جرّاء عثرات الحُكم الجديد.
لا معلومات عن كواليس التفاوض ومُناكفات الصياغة؛ لكن الشكل بوّابة عريضة لقراءة المضمون. جاء الاتفاق على ورقتين بيضاوين تماما، لا يحملان شعار الدولة ولا أية علامة على اتصالهما بمؤسسة الرئاسة. النص من دون ديباجة قويّة، ولا تظهير لأسماء الموقّعين طباعةً.
يُحتَمَل أنهما استُدعيا للتوقيع على عجلٍ؛ فخرجت الصورة عشوائية من دون ترتيبٍ أو تدقيق؛ إنما الاحتمال قائم أيضًا بأن ما عَرِض كان مطلوبًا هكذا، وأن المداولات جرت بين قائدى ميليشيا: سوريا الديمقراطية الكُردية، وهيئة تحرير الشام السُنيّة الجهادية؛ ليكون من مراكز ندّية مُتكافئة، وليس بين ميليشاتىّ ورئيس.
لا تنفصل التهدئة بطبيعة الحال عن مبادرة أوجلان الأخيرة، ودعوته حزب العمال الكردستانى لإلقاء السلاح وحلّ نفسه. تصفية القضية الكُردية مع تركيا يُطفئ الجمر المتأجج فى سوريا؛ إذ النزاع الدائر إلى الساعة يتأسس على مخاوف أنقرة، بأكثر مِمّا يتّصل بمصالح دمشق. أى أن مظلوم عبدى يأخذ بحصّته من توجيهات «القائد آبو»، وكان تعليقه الأول عقب توقيع الاتفاق أن «المقاتلين الأجانب سيُغادرون بمُجرّد وقف إطلاق النار».
رغم المواكبة الحثيثة لسلطة الجولانى، ودفع الرياح فى أشرعته من جانب بعض العواصم بشكلٍ يُثير الارتياب؛ فإن موقفه ما يزال أضعف من الإدارة الذاتية فى الشرق والشمال؛ أقله لأنهم يملكون حاضنة مُتجانسة نسبيًا بين الكُرد والعرب المُتحالفين معهم، ولديهم القوّة والفعاليات التنفيذية المُستقرّة، وموارد طبيعية توفر مصادر دخل مُنتظمة، ورعاية أمريكية ما تزال ثابتة على موقفها الداعم. والمعنى؛ أن الخطوة لم تأتِ عن ضعفٍ من الكُرد، ولا عن قوّة من الجولانى.
وعلى ما فات، يصعُب افتراض أن يكون الخفىّ من بنود الخطّة ميالاً لطرفٍ على حساب آخر. وإذا أقرت «قسد» بإخراج المُقاتلين الأجانب؛ فالمقابل أن تُنحّى هيئة تحرير الشام أجانبها أيضًا، والمُهلة المنصوص عليها إلى آخر العام الجارى؛ إنما وُضِعت لاستكشاف المواقف وبناء الثقة، وتقويم كل طرفٍ لممارسات الآخر، وقد تُفضى إلى تفعيلٍ كامل أو ارتداد كامل، ولا حلول وسط.
يُضيف الاتفاق أخلاقيًّا لرصيد الكُرد. لقد ذهبوا إلى دمشق فى سياق أزمة، ويعرفون أن الحُكم الجديد عُرضة لضغوط إقليمية ودولية قاسية، وكان بإمكانهم الضغط؛ لو أرادوا، للمساومة على مكاسب أكبر. وليس القصد أنهم يرقصون على دماء العلويٍّين؛ إنما أنهم يفتحون بابًا للتوبة والإنابة والتصويب، وما بالغوا فى مطالبهم ولا استغلّوا اللحظة للتصويب على طرفٍ لم ُيُبدِ أى شعور إيجابى نحوهم منذ اختطف الحُكم بقوّة السلاح.
يستفيد الجولانى من الورقة أكثر من مظلوم عبدى. وقّع رئيس الأمر الواقع مُضطرًّا، وسواء كان مُقتنعًا أم لا؛ فإن حاشيته الأصولية لا تقبل مسألة الكفاءة بمعزلٍ عن العِرق والدين، إذ من آثارها الجانبية أن تتوقّع دُرزيًّا أو عَلويًّا أو مسيحيًّا فى الولاية الكُبرى.
يقول الرجل خلاف ما يعتقد، أو على الأقل ما يستطيع إنفاذه باقتناعٍ من تيّاره. وتلك مُفارقة مُدهشة فى الواقع؛ لأن ما يحدث فى سوريا شبيه بكل الدراما الرديئة التى عرفها البشر طوال تاريخهم، لكن أطرافًا تستميت لإكسابها صفة الملاحم، وتُجنّد كل قواها لإقناع الجمهور بأن شجر السنط قد يطرح وَردًا.
من الوارد أن ينطوى الأمر على مُناورة، وأن يكون مُجرّد محاولة لتقطيع الوقت، وتأمين عبور ناعم للجولانى من أزماته الراهنة. لطالما تعرض الكُرد للمكائد، وسحقتهم الخرائط الجيوسياسية المُتبدّلة عصرًا بعد آخر. أثبتوا عمليا بالاتفاق أنهم وطنيّون أكثر من غيرهم، وراغبون عن الابتزاز مع قُدرتهم عليه وموثوقيّة أن يُعزز منافعهم. إنها فرصة مثالية لميليشيا الحُكم أن تصير نظامًا حقيقيًّا، وهامش انتقال قد يكون الأخير؛ إذ ما بعده لن يكون كما قبله.
الورقة يُمكن أن تفتح الباب لالتئام سوريا الواسعة، وإعادة تجميع مكوّناتها المُتشظّية، وإن فسدت فستكون مُقدّمة الانفجار الجهوى والهويّاتى.
يتطلّب الأمر مُساءلة جادة وسريعة عن مجازر الساحل، وانعكاسا لألوان البيئة الوطنية فى تراكيب الأجهزة والمؤسسات.
تتوجب إعادة تكوين الفعاليات الانتقالية، وضبط النصوص والممارسات، وتحديد جدول زمنى واضح للعبور من المؤقت إلى الدائم.
يجب الفصل بين انتماء الجولانى وصفته الاعتبارية، وبين سوريا وتصوّره عنه، وبين التزامه تجاه السوريين واضطراره لترضية أتباعه وحلفائه القُدامى فى الإرهاب.
فُتِح له باب للمرور الآمن بعد عثرات شتّى، وعليه ألا يغلقه على نفسه، وألا يُواصل تسمين ضباعه والصمت على توحشها؛ لأنها أول ما تأكل ستأكله مع نظامه، ولن ينفعه الداعمون مهما أنفقوا وسلحوا وزيفوا فى الوقائع والسرديات.