الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه، ومن والاه، وبعد.. فإن من أعظم النعم التى منَّ الله تعالى بها على الأمة الإسلامية «صيام شهر رمضان المبارك»، حيث لا يوجد شىء يوحدها فى ظل ما تعيشه من نكبات وويلات، وفرقة وشتات، وتسلط للأعداء مثل هذا الشهر الكريم، فهو لا يقتصر على كونه عبادة روحية تهدف إلى تقوى الله فحسب، بل يُسهم فى تعزيز وحدة الأمة الإسلامية، وتقوية روابطها الاجتماعية، حيث يصومه المسلمون حول العالم فى وقت واحد، إلههم واحد، وقرآنهم واحد، ونبيهم واحد ويتبعون نفس القيم والمبادئ والتعاليم الدينية، مما يعزز الشعور بالانتماء إلى أمة واحدة.
أمة مركزية ذات رسالة عالمية بما تحمله من قيم عقدية وأخلاقية سماوية، جعلتها ملتقى كل الأجناس والأعراق واللغات، تجمعهم فى بوتقة واحدة، يشد بعضهم بعضًا، فتربط بين أوصارهم حتى يصبحوا كالجسد الواحد، كما أخبر فى قوله: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى»،«أخرجه مسلم».
لقد وحد شهر رمضان بين المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها-على اختلاف ألسنتهم وألوانهم- وحد بينهم فى فرحهم، وسرورهم، وحد بينهم فى وقت طعامهم وشرابهم، يجتمعون على عبادة واحدة، فيمتنعون عن الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يشعرون بنفس المشاعر من الجوع والعطش، وكأن القلوب تنبض معا بنظام واحد يجمعها ويؤلف بينها، مما يعزز الإحساس بالمساواة بينهم بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وبما يخلق جوًا من الألفة والمحبة داخل المجتمع، تحقييقًا لقوله تعالى: «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»، «آل عمران: 103».
إن الصيام ليس مجرد عبادة فردية، بل هو وسيلة فعالة لتعزيز الروابط الاجتماعية، وتقوية الوحدة الأخوية والترابط الاجتماعى بين المسلمين، يُذكّر المسلمين بقيم التضامن والتآخى، ويحثهم على التعاون والتكافل، مما يسهم فى بناء مجتمع قوى ومتماسك يسوده الحب والترابط.
كما أنه فرصة عظيمة لنبذ الخلافات والفرقة والتشرذم، حيث يُحث المسلمين على ضبط النفس والابتعاد عن الغضب والجدال، مما يقلل من النزاعات والخلافات داخل المجتمع، فهو شهر المغفرة والتسامح يسعى الجميع فيه إلى نبذ الخلافات وإصلاح العلاقات والتصالح مع الآخرين، مما يسهم فى توحيد الأمة ونشر السلام بين أفرادها.
كما أنه يشجع على الإحساس بمعاناة الفقراء والمحتاجين، مما يدفع المسلمين إلى الإكثار من الإحسان والصدقات، ويتسابق الناس فيه إلى مساعدة بعضهم البعض، مما يقوى روح التعاون والتكافل بين أفراد الأمة.
وعليه، فإن شهر رمضان جدير بالمسلمين أن تتفتح له قلوبهم، وتصغى إليه أفئدتهم، وأن يستثمروا شعائره فى القضاء على كل ما فرق كلمتهم، وأضعف شوكتهم، وجعل الأمم تتداعى عليهم، تنفيذًا لقول الله تعالى: «وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»، «الأنفال:46».
كما أن الصيام فرصة لتجميع طاقات الأمة، ولمِّ شملها، وتوحيد صفوفها، فالتفريط فى وحدة الأمة وتماسكها نازلة خطيرة تستدعى من المسلمين عامة ومن المؤسسسات الدينية خاصة القيام بالتوعية بقيم الإسلام، التى توحد بين المسلمين، وتجمع بينهم، خاصة ونفوس المسلمين مهيأة بروحانية الصيام والشهر الكريم لتحقيق ذلك، كما أنه فرصة لتعزيز التكافل الاجتماعى، وتجسيد تعاليم الإسلام على أرض الواقع، ليصبح كل فرد لبنة فى بناء مجتمعٍ قوى متأخى ومترابط.
وختامًا: إننا بحاجة إلى معرفة مقاصد الصيام لنصوم صومًا حقيقيًا، صيامًا يكون سببًا للتغيير فى الأمة، فالصوم الحقيقى هو الذى يترك أثره فينا يوحد كلمتنا، ويجمع صفوفنا، نستطيع من خلاله أن نبنى جسور المحبة والعطاء، ونحقق الوحدة التى تنشر الخير وتحقق الصلاح فى الأرض.