يقول المثل السائر: “أهل مكة أدرى بشعابها”، وكان مختار الكسباني من أهل مصر الحقيقيين، ابن منطقة القلعة والخليفة والإمام العامرة بالآثار الإسلامية لذا لم يكن في حاجة إلى أن يتخصص في الآثار ليفهم روح الحضارة المصرية وأسرارها، فقد كان هو بنفسه أحد تجليات هذه الحضارة.
عرفته أستاذًا في كلية الآثار بجامعة القاهرة، وسرعان ما أصبح صديقًا، ثم رفيقًا، ثم مرجعًا ومرشدًا. وكان الأقرب إلى قلبي والإجابة الحاضرة لكل من يسألني عن شيء يخص الآثار الإسلامية، فأردّ: “اسأل دكتور مختار”.
كان ابن البلد الجميل، خفيف الظل كذلك، ولم يكن بحاجة إلى رفع التكليف بينه وبين تلامذته، فلا تكلف أصلاً في حديثه ولا في معاملته. ابتسامته المحببة تعرف طريقها إلى القلب جيدًا، وقفشاته الحاضرة ترسم لك صورة تفصيلية لخريطته الجينية، لتدرك أنك أمام رجل مصري مائة في المائة.
أتذكره وهو يحمل البروجيكتور ويمضي به إلى المحاضرة، فتظلم القاعة ويقف في النور، يعرض لنا آيات فن عصر النهضة وما قبله وما بعده، يمنحنا في محاضرته الشيقة علمًا متدفقًا وكأنه يغني، فنطرب في محاضرته، ونتعلم، ونحلم، ونعرف لماذا يكون الفن العظيم عظيمًا.
كان يقف في النور ونحن نجلس في الظلام، ليفتح لنا بابًا نسير فيه مطمئنين إلى الفن والشغف والمعرفة، وببعض من نوره ندخل إلى دنيا المعرفة ونسير.
سرعان ما عرفنا بعد ذلك أن أستاذنا هذا لم يكن من الأكاديميين الخاملين الذين لا يعرفون من الدنيا إلا قاعات الدرس، بل كان سياسيًا حكيمًا، وأحد أهم قادة المعارك الثقافية في وقته.
كان يدافع عن الآثار بحمية شديدة وتعصب صلب، لكن سرّ هذا الانفعال انكشف لنا حينما علمنا أنه تربّى في رحاب هذه الآثار، وعاش معها بحكم نشأته في حي الخليفة والإمام، فعرفنا أنه كان يدافع عن بيته الذي تربّى فيه، ومنطقته التي تجوّل فيها صغيرًا، وهام بعشقها كبيرًا. مسّه سحر العمارة، وأسرته عبقرية الفن والنقوش، رأى نور الله في المحاريب والمقرنصات، واستشعر الرهبة في صحون المساجد وظلالها، ولما كبر أراد أن يعرف أسرار هذا السحر، فدرس الآثار الإسلامية، فلم تزده الدراسة إلا افتتانًا.
عرفناه لسانًا حاميًا، يدافع عن وطنه الأصغر ووطنه الأكبر، يرى الأحداث الجارية فيخرج بالرأي السديد، لا لشيء إلا لأنه يعرف القصة من البداية، ويدرك أصول الصراع من دراسته للتاريخ وتبحّره في أغواره. وحين انغمس في العمل العام داخل المجلس الأعلى للآثار، قبل أن يتحول إلى وزارة الآثار، كان ألمعيًا في أفكاره، مبتكرًا في حلوله، لا يخلص لمنصب حاز عليه، وإنما يخلص لفكرة آمن بها، ولوطن هام بسحره وتاريخه.
حتى أيامه الأخيرة، كان نعم الأستاذ والأب والمعلم. ولما هاتفته منذ أشهر طلبت أن أقابله، ولم أكن أعلم أنه أصيب بجلطات متفرقة جعلته يتحرك بصعوبة كبيرة، لكنه أخفى عني مرضه وحالته الصحية، واتفقنا على أن نلتقي في المقهى المجاور لمسجد السلطان حسن، كعادتنا. وذهبت أنا وصديقي خليل منّون لمقابلته، وبرغم معاناته الشديدة في الحركة، كانت روحه كما هي، وكانت أحلامه كما هي. صار يقترح علينا الأفكار البحثية والدراسية، مبدِيًا أتمّ الاستعداد للمشاركة في الندوات التوعوية والحملات الصحفية، فتذكرت حديث رسولنا الشريف: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها”. فبرغم حالته الصحية المتراجعة وخيانات جسده المتكررة، لم يمنعه المرض من النضال العلمي والوطني، حبًا في وطنه وإخلاصًا لرسالته التعليمية.
رحم الله أستاذي الحبيب، وأنزل الصبر والسكينة على قلوب أبنائه ومحبيه وتلامذته.