حازم حسين

عن روايتنا وقصصهم القصيرة.. أهل غزة بين الانسياق والانعتاق فى حوار أمريكا مع حماس

الإثنين، 10 مارس 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تعرف حماس، أو لا تعرف؛ فإنها هُزِمَت فى حرب غزّة الأخيرة، وأورثت القطاع عِللاً سيعيش معها لسنوات طويلة، وقد لا يتعافى منها تماما قبل عقود. والحركة إذ تُنكر، وتتشدَّد فى إنكارها؛ فإنها تتجاوز فكرة الترميم النفسى والبقاء فوق حدّ التلاشى، وتبدو مُتلبّسة بالسردية وشديدة الاقتناع بانتصارها الوهمى؛ وهنا تكمن المُشكلة.


ليس اختلافا عابرا على تعاريف، ولا هى حنبلية زائدة وتضييق لما وسّعه الله. والعاطفة إن قضت بالانحياز للمنكوبين فى فلسطين، فالعقل يُفرّق بين الدعم المثمر، وما يُلامس حدود الضلالة منه، ويُورث الأوهام والعثرات. الوقوف على الواقع ضرورة للوعى به، وشرط لتجاوزه، وحصانة من تكراره والانزلاق فى سوءاته مرّة بعد أُخرى.


والحال؛ أن الفصائل الغزّية طوّحت عيونها إلى ما وراء حدود القطاع، وألقت حِمل رواحلها فى الغلاف ومستوطناته، قتلت كما تيسّر لها وعادت بمَن اقتدرت على العودة به، وقدحت بالقصد أو الاعتباط ما كان شرارة لحرب نكراء ما يزال أوارها لاهبا، وجمرها مطمورا بين الركام والأشلاء.


تبدّت الشجاعة فى القرار أوّلاً، ثم فى التخطيط الدقيق والتنفيذ المُحكَم. وبعيدًا من تفاوت الرؤى إزاء ما حاق بالأبرياء، فلا يُمكن إنكار جلال الصمود طوال الشهور الماضية، وما أبداه المقاتلون من عزم وبأس؛ لكن الجسارة المطلوبة فى سياق نكبة كاسرة، ما كانت تتطلّب مزيدًا من التصلُّب والعَنَت، ولا الاختباء دون الحجر والتعالى على وجيعة البشر.


يصير النصر حقيقيًّا عندما يكون مُقنعا، وعندما يستشعره أطرافه ويتقاسمون ثماره، ويخرجون راضين جميعا بالقسمة وما فيها من منافع وأضرار. وبينما يعيش ما يفوق مليونى غزِّى أجواء انكسار كاملة، ويتجرّعون الهزيمة فى كل ساعة من يومهم؛ فلا يمكن القول إن حملة السلاح قد انتصروا وحدهم، بينما لم يعد حجر فى بيئتهم الحاضنة فوق حجر.


والقصد مِمَّا فات؛ أن سرديّة النصر المزعومة من جهة حماس، لا تلوّث مظلمة الغزيين وفجيعتهم المؤلمة فحسب، أو تُمرِّر دعايات العدوّ عن وحشية الفصائل ووجاهة الرجوع لإكمال مهمة الإبادة والتطهير؛ بل تضغط على أعصاب الحركة نفسها، فتُربك بصرها وبصيرتها، وتشوّه الطريق، وتشلّ قدرتها على الاختيار البصير الحُر.


أخذ السنوار بزمام المبادرة لساعة واحدة، ومن بعدها وُضِعت القضية على المذبح. نحو مائتى ألف قتيل وجريح وما يزال العدّاد مفتوحًا، وأطلّت مُخططات التهجير وتبييض الأرض من ساكنيها مُجدّدًا. يُلعب فى المنطقة جيوسياسيا، وكثير من مُعادلاتها تبدّلت بالفعل، وصار أقصى ما يتمناه القسّاميون أنفسهم أن يعودوا إلى ما قبل جنونهم غير المحسوب.


الفكرة هُنا أن العملية لم تكن مدروسة على الإطلاق، وأفضت لِما أفضت إليه لأن الحركة فكّرت فى نفسها فحسب، واحتكمت فى المواجهة وحكمتها بكاملها لمعيار ما يُريده قادة الأنفاق، وما يصبّ فى صالح التنظيم وأصوله الأيديولوجية، وما يُضيف لرصيد تحالفاته فوق الوطنية وخطوط اتصاله بالشيعية المُسلّحة، وغيرها من قوى الرجعية فى المنطقة.


ما وجد ديكتاتور القطاع عاقلاً ينهاه عن المُقامرة، ولا لاقاه بعد المأساة من يُبصّره بالتكاليف الباهظة، وينهاه عن الانسياق وراء قطعة الجُبن فى مصيدة العدو، أو رهن البلاد والعباد لأهواء لا بُرهان عليها من عقل ولا منطق. وبقدر ما هَلّل التابعون للغزوة الكُبرى فى الطوفان، ابتلعوا ألسنتهم فيما بعدها، وظلّت الحكاية مشروخةً من العُمق بين روايتين، وكلاهما خطأ.


افترضت حماس أنها قادرة على إيلام المُحتل وإعادة إنتاج حالة مُضاعَفة من صفقة شاليط، وأنها ستفوز بالأسرى والتهليل والمُبادلة وتثبيت حُكمها فى القطاع، وإزاحة السلطة جانبا واقتطاع حشوة فم من شرعيتها وتمثيلها لفلسطين وشعبها. وعندما انقلب عليها ظهر المِجنّ وفَحّ الميدان نارًا فى وجهها، توهّمت نجاتها فى الخنادق والفنادق، على أن يُلام الآخرون بالداخل والخارج، وتتولّى هى تحصيل كُلفة البطش باعتبارها ولىَّ الدم.. وإذ أخفقت فى الأولى؛ فإن مداواة إخفاقها لا تتحقق إلا برَدِّها عن الثانية.


القصد أن ما كان سببا فى تسعير النار لن يُطفئها، وأن العدو له السبق فى الميدان والسياسة على السواء، ومن ورائه مُؤازرة أمريكية كاسحة، وهشاشة إقليمية لا مراء فيها، وأنه لولا صلابة القاهرة منذ الطوفان لآلت الأمور لأسوأ مِمَّا عليه الآن. باختصار؛ تبدّد الكثير فى أيدى الحماسيِّين، وما تبقَّى يتعيّن إنقاذه منهم قبل غيرهم؛ لأنه طالما ظلّ فى عُهدتهم، فسيظل هدفًا دائمًا للتصويب.


يُسدِّد الغزيّون فواتير عقود مضت. تقبض حماس على «الطوفان» لأنه مناط فخرهم كما يتوهّمون، ويتعلّل به نتنياهو لأنه تُفّاحته الأكبر والألمع على شجرة الثأر. والحق أن عملية الغُلاف أورقت فى ذهن السنوار قبل موعدها بثلاث عشرة سنة على الأقل، وتحديدا بينما كان يُغادر محبسه فى صفقة شاليط، وتُغذّى فيه تل أبيب شهوة الطمع وإمكانية إبرام المبادلات الرابحة. بينما العدوان أو حرب القيامة قُصَّ شريطه قبل نحو عقدين، وتحديدًا منذ انقلبت الحركة على السلطة فى القطاع، ورعاها زعيم الليكود واستثمر فيها وثبّت أقدامها فى حقل النار.


أزمة المفاهيم حاكمة منذ البداية، والقضية مأساة لا ضِفاف لها. سُحِبنا إلى تديينها بغير ضرورة ولا فائدة، وقسّمناها داخل الدين شِيَعًا وطوائف، فصارت تأكل نفسها من الداخل قبل أن يقضمها الضباع من الخارج.. نراها رواية مُمتدة، ويتعامل معها العدوّ كمتوالية قصصية. هكذا نخسر ولا نبالى طالما الدراما لم تنقطع، ويكسب هو ثم يُغلق الصفحة ليبتدئ غيرها عند منسوب أعلى، مُتجاوزًا آلامه القديمة، ومُتأهبًّا لمفازات جديدة.


عقدان تقريبًا عاشهما حزب الله فى معيّة الوهم الجميل، مُستحلبًا سرديّة النصر على الصهاينة فى حرب تموز/ يوليو 2006، وصارفًا فائض القوّة المُهشّمة وراء الليطانى، على الشُركاء والمناوئين فى بيروت. قال حسن نصر الله إنه لم يعلم ما سيحدث لَمَا بادر باختطاف الجنديين؛ لكنه ظلّ يتعامل بوصفه مُنتصرًا، ويستوفى تكاليف الهزيمة بالاستئساد على لبنان، شعبًا ودولة.


هُزم الحزب العتىّ فى أقل من شهرين. أطلق حرب الإسناد والمشاغلة صبيحة اليوم التالى للطوفان، وأعجبه أن نتنياهو يتردَّد فى التصعيد، وأن يُورد الإعلام العِبرىّ عنه ما يُشبه الخشية والارتداع، وأنه ردّ جنرالاته عن نزوعهم لإنفاذ ضربة استباقية فى معاقل الميليشيا الشيعية. نُفِخ فى هيكله من جهة ضبع الليكود، فانتفخ لدرجة تتخطّى ما كان عليه فى كل المواجهات السابقة، وفجأة تفجّرت بالونة الهيليوم فى ستة أسابيع، من تصفية القادة لأجهزة البيجر وصولا لنحره شخصيًّا.


هُزِم الحزب فى العام 2006؛ لكنها كانت هزيمة رمادية، تيسّر له أن ينكرها ويواصل عراضات النصر. واليوم تجدَّدت الانتكاسة على معنى أوضح، وما يزال مُستميتا فى المكابرة؛ لاعتبارات نفسية ومذهبية. الضربة أثقل لأنه لم يعترف بسابقتها، ولا وعى دروسها واعتبر بمُسببات نكبتها. والحال شبيهة لدى حماس؛ إذ فوّتت الهزائم الرمادية فى أربع حروب سابقة، وتأخذها العّزة بالإثم فى الخامسة الراهنة؛ ما يُبشِّر لا بالتكرار فحسب؛ بل بالبقاء على فراش المرض، وحرمان البيئة المنكوبة من النقاهة وفسحة التشافى.


والانطلاق من الوهم لا يُورث إلا وهمًا، أكان بالمبالغة فى تقدير الذات دون باعثٍ قرينة يُحتَج بها، أم من جهة رؤية الغريم على خلاف الحقيقة الدامغة. وإذ يقف نتنياهو على رُكام غزّة، سابحًا فى دماء عشرات الآلاف، وزاعما أنه ما أكمل المهمة ولا استجلب لبلده أمنها المطلوب؛ فإن ذوى الضحايا على الضفة المقابلة يُصرّون على العكس، ويُجاهرون بالجاهزية الدائمة للميدان، وبالمِراس على الحرب إلى ما لا نهاية.


ومثلما كان الحزب والحركة ذريعتين مصونتين فى خزانة الاحتلال؛ فقد جرّب الآلية ذاتها إزاء السلطة السورية الجديدة. تلقّف سقوط نظام الأسد بغارات جوية هادرة، ثم توسّع فى الجنوب، ويسعى لفتح ممر داود باتجاه المناطق الشرقية، ويُبرِّر تغوّله بالحاجة إلى ضمانة أمنية إزاء ميليشيا إرهابية تسنّمت مرافق الحكم فى دمشق، لا سيما فى ظل تبعيتها لأجندة عثمانية لا تختلف عمَّا كان من البعث مع الشيعية المُسلَّحة.


فُتِحَت قنوات الاتصال مع الجولانى ومجموعته، واتفاق الجنوب اللبنانى أُدير بشكل مباشر مع الحزب؛ ولو من قناة نبيه برّى. مفاوضات الهُدنة الغزّية تُدار مع حماس من خلال وساطة مصرية قطرية. الولايات المتحدة لا غضاضة لديها فى محاورة أى طرف؛ حتى لو كانت تُصنّفه تيّارًا إرهابيًّا أو تضعه على لوائح العقوبات.


مُؤخّرًا فتحت واشنطن أشرعتها على حماس، والتقى مبعوث ترامب لشؤون الأسرى والرهائن، أدم بوهلر، مندوبين عن الحركة فى قطر. شاع كلام كثير عن بحث اتفاق وقف إطلاق النار إجمالا، أو عن بعض المحتجزين من مزدوجى الجنسية، وساح الخيال فيما يخص اليوم التالى، وطبيعة حُكم القطاع ما بعد انتهاء الحرب، وأخيرًا قال طاهر النونو، مستشار رئيس الحركة، إن الحوار ركّز على أسير واحد يحمل الجنسية الأمريكية.


وبعيدًا من أجندة اللقاء ومحاوره؛ فالخطير فيه أنه يُعيد تشويه المفاهيم فى ذهن الحماسيين مُجددا. لا الحرب ولا خسائرها أقنعتهم بالنزول عن الشجرة؛ بل استشعار أن الطريق إلى المُستقبل مُقفَلَة طالما ظلوا على قارعتها، وأنهم بمثابة العبء على حاضنتهم وذويهم، إذ لا أحد سيتصدّى للإعمار والتعافى وتطبيع الحياة الغزّية مُجددا، ولن يقبل الاحتلال أصلا، وعليه بدت الصورة واضحةً دون لبس، والمسار إجباريًّا من حارةٍ مرورية واحدة.


الرومانسيون ربما يتوهّمون بعد اللقاء أنهم مقبولون من جانب البيت الأبيض، وأن ترامب يُلوِّح لهم بإمكانية أن يكونوا طرفًا مباشرا فى التسوية، أو شريكا فى اليوم التالى. وبينما لا شواهد على التأويل من تلك الزاوية؛ فإن نكبة الحماسيين وأطماعهم ستُسوّغ لهم أى تفسير مهما بدا غير منطقى، وقد تُغريهم بمواصلة الوقوف بالعرض فى قنوات الاتصال، مع الغفلة عن أنهم عاجزون عن التقدم للأمام، ويقطعون طريق الآخرين.


اختيار بوهلر يحصر المسألة فى زاوية الأسرى، دون انتقال بها إلى النطاق السياسى أو الأمنى؛ وإلا كان الحديث مع الخارجية الأمريكية أو مبعوث ترامب للشرق الأوسط. وأغلب الظن أنها استمالة للحركة فى سياق السعى لاستخلاص الأمريكيين المُحتجزين فى غزة فعلا، ولا مانع من إرخاء حبل الأمل للفصائل بما يزيد تصلُّبها، ويحقق أثر التشغيب على المقاربة العربية، لتصب الحصيلة فى مسار مشروع السلام العقارى وريفييرا الشرق الأوسط.


الولايات المُتّحدة تُمارس التناقض كعادتها، والرئيس نفسه أعلن مُؤخّرًا أنه خاطب المرشد الإيرانى، وكان قد أقرّ عقوبات إضافية قبل أسابيع، وعاد لآلية «الضغوط القصوى». إسرائيل تتحضّر لعملية ضد منشآتها النووية على الأرجح، ورئيس أركانها الجديد إيال زامير قال إن 2025 سيكون عام الحرب مع الجمهورية الإسلامية. الرسائل مُتضاربة ظاهرًا؛ لكنها مُخلصة تمامًا للرؤية الصهيو-أمريكية للمنطقة، وما بشّر به نتنياهو عقب الطوفان عن إعادة ترسيم الإقليم.


يُحتَمل أن يكون لقاء الدوحة عابرًا، والاحتمال أكبر أنه مُناورة تضمر أهدافًا أكبر وأبعد كثيرا من الظاهر، وربما تأتى فى سياق لعبة توزيع الأدوار، أكان داخل الإدارة الأمريكية، أم مع الحلفاء الصهاينة فى تل أبيب. والحماسيّون عليهم أن يرفعوا قرون الاستشعار، وأن يقدموا الارتياب على الثقة فى الذات، حتى لو اقتضى الأمر أن يُضحّوا بما يعدّونه مُمكنًا، لإبعاد عدوّهم أكثر عمَّا نراه مُستحيلا؛ إذ لا مستحيل دائمًا وعلى الإطلاق.


ترامب لم يتخلّ عن خطته، ولن يتوقف عن سَوقها بين قوتٍ وآخر. مصر حاسمة فى موقفها ولن تتراجع عنه؛ لكنها فى حاجة للمؤازرة الجادة من المعنيِّين باستبقاء فلسطين عند الحدود القابلة للتجسيد مستقبلا.. مواقف بعض العرب رخوة، وكثيرون بينهم يُرتبون مصالحهم الخاصة فوق المشتركات، ويبحثون عن أدوار فيما لا يحتمل المُناكفة؛ إنما تظل العُقدة الكُبرى فى الداخل الفلسطينى، وفى القطاع تحديدا، وداخل أذهان الحماسيين حصرًا.


أبدت الحركة قبولاً لخطّة مصر كاملة، ورحّبت بلجنة الإسناد المُجتمعى، وبأنها تنتظر الذهاب لانتخابات عامة فى القريب. لا يعى الحماسيون أنهم خرجوا من السياق الراهن، وليس فى مقدورهم أن يكونوا طرفًا فى الإدارة بالسلاح أو الصندوق. المسألة لم تعُد مناكفة مع السلطة ومُنظمة التحرير، ولا خصومة مع عباس وحلقته الضيقة.


إنه وجود أو فناء، بقاء أو تهجير، والذريعة الكُبرى فيه كتائب القسّام وامتداداتها فوق الوطنية، وصلاتها بالإخوان والشيعية المُسلّحة وغيرهما.. الاحتلال على خباله القديم، وحلفاؤه الأمريكيون أكثر جنونا من أى وقت مضى. الحركة استنفدت الخيارات كُلها، وبقاؤها والعدم سواء، وإن لم تُبادر بحلّ نفسها، أو إعادة الهيكلة والدخول تحت عباءة المُنظّمة؛ فأقلّه أن تعترف باستثنائية اللحظة، وبأنها لن تتجاوزها بالوصفة القديمة، وأن تخرج من أوهام المقبولية فى واشنطن؛ لأنها قد لا تكون محلّ قبول أصلاً فى داخل غزّة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة