حين يعلن شهر رمضان عن قدومه، يختلط السكون بروائح البخور، ويُجسد مدفع الإفطار بوقًا من الزمان والمكان، يعلن عن لحظة الإفطار، حيث تتناغم قذائفه مع آذان المغرب وتبتهج قلوب الصائمين.
هذا المدفع، الذي يعزف لحنًا من الذكريات والأحداث، ليس مجرد أداة صوتية بحتة، بل هو جزء من هوية رمضانية يتجدد مع مرور الأجيال، وفي كل عام، يحتفظ المدفع بمكانته الخاصة، وكأنه رفيق زمني قديم لا يتخلى عن مهمته التي ابتدأها منذ مئات السنين.
.jpg)
مدفع الإفطار
في قلب القاهرة، تجتمع الطقوس والذكريات حول مدفع رمضان الذي يعد جزءًا أصيلًا من طقوس الشهر الكريم.
وفي هذا العام، تستعد القاهرة لإطلاق المدفع في رمضان بعد صيانة وتجهيزاته، لتستعيد بذلك شعبيته التي يعشقها الجميع، حيث يظل الصوت المدوي لهذا المدفع رمزًا للفرحة والاحتفال الذي يعم الأجواء.
وعند سماعه، ترتسم الابتسامة على وجوه الأطفال الذين يرون فيه علامة انتهاء يوم طويل من الصوم، بينما يرفع الكبار أكفهم داعين مع الإفطار، كأنهم يشاركون في لحظة من الزمن الفريد.
.jpg)
أمام مدفع الإفطار
لكن وراء هذا التقليد، هنالك حكايات وقصص تروي كيف بدأ هذا المدفع في الظهور لأول مرة في تاريخ مصر، تذكر الروايات التاريخية أن القاهرة كانت أول مدينة في العالم العربي تعرف مدفع الإفطار، ففي عام 865 هـ، مع غروب أول يوم من رمضان، قرر السلطان المملوكي خشقدم أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه، وعندما أطلق المدفع في وقت المغرب بالضبط، اعتقد الناس أنه جاء لتنبيههم بأن وقت الإفطار قد حان، فخرجوا جماعات إلى مقر الحكم ليشكروا السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، عندها، قرر السلطان أن يواصل إطلاق المدفع يوميًا إيذانًا بموعد الإفطار، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف مدفعين آخرين، لتصبح عادة متجددة.
ورغم أن العديد من القصص تتفق على هذه الرواية، فإن هناك من يروي أن ظهور المدفع كان من قبيل الصدفة، ولم يكن له أي نية مسبقة، فحسب بعض الروايات، كان الجنود في عهد الخديوي إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، وفجأة انطلقت قذيفة مدوية في سماء القاهرة، ليصادف توقيتها وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان، فظن الناس أن هذا هو تقليد جديد أطلقته الحكومة للإعلان عن وقت الإفطار، وهو ما دفعهم للحديث عن الأمر بحماس. وعندما علمت فاطمة، ابنة الخديوي إسماعيل، بما حدث، أعجبتها الفكرة، فأصدرت فرمانًا يقضي باستخدام المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية، لتصبح بذلك سنة جديدة في تاريخ مصر.
.jpg)
هنا مدفع الإفطار
هكذا تحول مدفع الإفطار من حادثة غير مقصودة إلى تقليد متأصل في الذاكرة الرمضانية للمصريين.
وقد ظل هذا المدفع ينطلق عبر السنين، ليس فقط كإشارة إلى موعد الإفطار، بل كأيقونة من أيقونات رمضان التي تجلب البهجة والفرحة لكل بيت، وترتبط بمشاعر خاصة تجمع بين الأجيال، الذين يحيون هذا التقليد بكل حب.
وبين طقوس رمضان التي لا تتغير، يبقى مدفع الإفطار في مكانه بين التراث والمستقبل، وكأنه يروي حكاية القاهرة عبر الزمان، بل حكاية مصر بأسرها في لحظة يتجدد فيها الفرح مع كل انطلاقة للمدفع.
ليظل مدفع رمضان منارة تضيء ليالي الشهر المبارك، رمزًا للفرحة، ونافذة مفتوحة على تاريخ طويل من العادات التي تحمل في طياتها لمسة من الأساطير والتقاليد التي أضحت جزءًا من هوية المصريين.