لا أعرف لماذا كان أبى مُصرا على التحاقى بكلية الإعلام جامعة القاهرة، قبل نحو 25 عاما، فلا أقارب يعملون بهذا المجال، ولا واسطة ولا محاسيب، بل أكثر من ذلك، لم يكن أحد من قريتنا «طرشوب»، فى ريف بنى سويف قد التحق بهذه الكلية، أو حتى القرى المجاورة، ولكن الأمر كما يقولون «الصيت ولا الغنى»، ومع إصرار الأب وتشجيعه، انتقل حلمه إلى قلبى شيئا فشيئا، فعزمت أن تكون كلية الإعلام وجهتى.
المحبطون موجودون فى كل زمان ومكان، هذا كلام لا شك فيه، ومع أول زيارة إلى جامعة القاهرة، أخبرونى أن فلانا فى مركز «ببا» حاصل على بكالوريوس إعلام، ويعمل موظفا فى مجلس المدينة، فى إشارة واضحة أن مصيرى لن يذهب بعيدا عن هذه التجربة، بينما آخرون كانوا يصدرون الأوهام، عن طبيعة الكلية والطبقات الاجتماعية التى ترتادها، لكن كل هذا كان تحت أقدامنا، فلم تفتر عزيمتى، وقررت أن أخوض الحرب منفردًا، وألا أعود إلى القرية بعد الجامعة، وأستكمل طريقى مع صاحبة الجلالة حتى وإن ضاقت السبل، وضنت الفرص، وأغلقت الصحف أبوابها فى وجهى.
تجربتى الأولى فى عالم الصحافة كان الظلم عنوانها، جريدة حزبية، قررت فجأة أن تغير اسمها، وطلبت مجموعة من الشباب ليلتحقوا بها، سارعت وغيرى من الزملاء، أملاً فى فرصة عمل، حتى وإن كان الراتب بالكاد يكفى أجرة السكن والمواصلات، ثم تدعمنى الأسرة بما يمنحنى القدرة على البقاء صامدًا، سواء فى صورة مواد تموينية، من الشاى والسكر، حتى البط البلدى والخبز البيتى، أو « فلوس» أحصل عليها من أبى مع كل زيارة لبلدتنا الصغيرة، وعلى هذه الطريقة وبتلك الكيفية قضيت شهورا امتدت لسنوات، تحسنت الحالة المادية قليلاً، لكن الحالة الوظيفية لم تتغير، يمر عام تلو الآخر دون تعيين أو استقرار وظيفى أو طريق واضح إلى نقابة الصحفيين.
خمس سنوات من السعى والعمل، تحول معها الخريج المبتدئ إلى شاب فى النصف الثانى من العشرينيات، تطارده أحلام الاستقرار والزواج، حتى وإن لم يكتمل الحلم الوظيفى، خاصة أن هذا الوقت كنت أعمل فى أحد البرامج التليفزيونية، وكنت قادرًا على تدبير أمورى وتكوين أسرة صغيرة.
بعد مفاوضات ومداولات مع إدارة الصحيفة الحزبية فى أواخر عام 2010 ومطلع 2011، اتفقوا على خريطة زمنية لتعيين الصحفيين، وقبل أيام قليلة من ثورة 25 يناير، جلس معنا رئيس التحرير وأبلغنا أن حلمنا قارب الحقيقة، وسوف يتم توقيع العقود الأسبوع المقبل، وقد جاء هذا المقبل لكن شيئًا لم يأت، اشتعلت الثورة، وهاجت الجماهير، وسقطت الحكومة ونظامها، ولم يعد هناك وجود للحزب أو صحيفته، لدرجة أننى ذهبت إلى مقر الجريدة فى يوم السبت التالى للثورة بسذاجة شديدة، حتى أمارس عملى، وكأن شيئًا لم يحدث، لكنى وجدت الباب مغلقا وحارس الأمن «عم سيد» قد غطى «اليافطة» ببعض الأكياس السوداء، فسألته ماذا حدث؟ فأخبرنى أن رئيس التحرير ترك مكتبه، وأن الجميع فى إجازة مفتوحة وأن المكان إلى غير رجعة.
ما أصعب أن يتحول الحلم إلى شتات، ويتبدد عنوة، دون إشارة أو تنبيه، ويصير سرابا دون بارقة أمل، أو دليل يؤشر أن هناك طريقا قريبا أو حتى بعيدا، فبعد خمس سنوات من الكد والعرق، صرت إلى الشارع، لا عمل، لا صحافة لا حلم.. وما كان أمامى إلا أمرين، الأول العودة إلى القرية مرة أخرى أجر أذيال الخيبة، وأحصد الشماتة والسخرية فى عيون القريب والبعيد، وأن فلانا ابن فلان عاد من القاهرة بعد كل هذه السنوات صفر اليدين، ربما يعمل فى الأرض أو يُربى الماشية، بينما كان الخيار الثانى أن أبدأ من جديد، وأستكمل الرحلة بالبحث عن فرصة عمل!
الكاتب الصحفى أحمد الصاوى، رئيس تحرير صوت الأزهر، هاتف الأستاذ سعيد الشحات، مدير تحرير اليوم السابع، وأحد المؤسسين الأوائل لهذه التجربة الملهمة، لإلحاقى بـ«اليوم السابع»، والحقيقة أن الشحات قد أتاح الفرص لعشرات الصحفيين، وأفضاله على الجميع، وأنا أولهم، فهذا الكاتب المرموق، لا يتحيز إلا للمهنة، وما عرفته إلا منصفا، يسجل رأيه وملاحظاته بدقة وعناية، ويقول الحقيقة فى عين صاحبها، ولم تغير المدينة أصالته الريفية المعروفة، وتواضعه الجم مع الصغير والكبير.
كانت «اليوم السابع» تستعد للانطلاق من الإصدار الأسبوعى إلى اليومى، واتصلت بعمنا سعيد الشحات فطلب حضورى، وسألنى عن مصادر التغطية الصحفية التى أجيد التعامل معها، حتى يحدد لى القسم المناسب، فأخبرته بعلاقاتى الجيدة فى الجهاز المركزى للمحاسبات، ورئيسه فى ذلك الوقت المرحوم المستشار جودت الملط، فكانت المفاضلة بين قسمى الأخبار والاقتصاد، فاخترت الأخبار، ووجهنى للصديق الرائع الأستاذ دندراوى الهوارى، الذى كان يدير قسم الأخبار فى ذلك الوقت، واستقبلنى بصعيديته الجادة، ولسان حاله يقول: «ورينا هتعمل إيه.. وهتشتغل إزاى»، لكن سرعان ما تلاقت الكيمياء بيننا مبكرا، فالرجل لا يعرف إلا العمل، وأنا كذلك، فصار مشجعا وداعما، وقد أصبحت بين أيام معدودة نجمًا للمانشيت والصفحة الأولى.
فى الأيام الأولى داخل اليوم السابع ما وجدت شخصا رحب بوجودى بقدر الأستاذ عبدالفتاح عبدالمنعم، أو «الغالى»، كما يعرفه أبناء اليوم السابع، وكان وقتها رئيسًا لقسم المحافظات، لكن بشاشته وحسن لقائه وكأنه يعرفنى منذ سنوات، يجعلنى دائما أشعر بالامتنان والمحبة لهذا الرجل، فقد كنت حينها أحوج إلى من يتصدق بكلمة طيبة ترفع المعنويات، وتدفعنى نحو تحقيق الحلم الضائع.
الحلم الذى استغرق قبل اليوم السابع 5 سنوات ولم يتحقق، قطعته فقط فى 3 أشهر، فبعد هذه الفترة القصيرة جدا وجدت قرارا معلقا على لوحة الإعلانات بتعيينى، وقد كنا حينها فى العشر الأواخر من رمضان 2011، ودخلت إلى مكتب الأستاذ خالد صلاح، رئيس التحرير فى ذلك الوقت، واحتضنته وصرت أبكى كطفل صغير.. لا يمكن أن أتجاوز هذه اللحظات الفارقة، وكرم الرجل معى وحرصه أن أستكمل طريق المهنة، فى وقت ظننت أن النور قد انطفأ، لكن إرادة الله كانت حاضرة دائما، وكانت «اليوم السابع» جبرًا لكل ما كان من معاناة وجروح.
فى العدد رقم 5 آلاف من «اليوم السابع»، لست بصدد رصد إنجازات هذه المؤسسة الكبيرة شكلا ومضمونا، فالأرقام تتحدث، والصدى والصيت خير دليل، والتأثير يعرفه الجميع، داخل مصر والمنطقة العربية والإقليم، بل والعالم دون مبالغة، فهذه تجربة صنعتها المهنية، وحركتها طاقات الشباب وخبرات الأساتذة، لذلك آثرت أن أكتب عن جزء من رحلتى فى بيتى الكبير، الذى أدين له بكل ما أملك، وأتمنى أن يظل مشعًا بالطاقة والأمل مع الكاتبة الصحفية المرموقة علا الشافعى، رئيس التحرير، بقلبها الكبير، وعقلها الواعى، وقلمها المميز، وتجربتها الثرية، التى تؤكد أنها اخترقت الصعاب، وصنعت تجربتها الخاصة، وشقت طريقها بذراع قوية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة