اسراء بدوى

نقد رواية على يمين القلب للكاتبة ليالى بدر

الثلاثاء، 04 فبراير 2025 02:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تراجيديا إنسانية فى مساحة زمنية ومكانية صغيرة لكنها تحوي العالم، هكذا كانت غرام تغوص فيما وراء جدار التاريخ غير المعلن وغير المكتشف.

بطاقة نسوية جديدة لهوية الإدراك والوعي والعلاقات الإنسانية.


غرام صوت المتكلم تعرية للداخل العربي بكل هشاشته وإحباطاته, بكل رغباته الصغيرة وانكساراته المتواليه أمام الهوية.


الراوية خلق نسيج نصي متشابك لإثارة وعينا بحالة من التغريب , فهى ليست حدث سردي يسير من البداية إلى النهاية بل خيوط غزل متقاطعة ومتواصلة فى آن واحد, تتلاقى وتتنافر بين الصراع الداخلي وبين الصراع السياسي الشفاف الواهن فى الاسقاط على الشخصيات الأخري.


السرد فى الرواية هو جموح لفارسة تعبر سياج الحدث فى كل مرة نشعر أن الحصان قد أوشك على السقوط.


تبدأ ببرواز خشبي بحجم كف يدها إلى أن أصبحت فى النهاية هى ذاتها الشكل الذي يكتمل داخل البرواز, فغرام كانت عسراوية الرؤي مختلفة المعايير.


وبالتداعى الفكري والفلاش باك مثلت غرام رحلة إثبات كيانها وهويتها فبدأت بأريحا الأسم الأكثر حضورا فى ذاكرتها, وانتهت بالعودة إليه فى ذكرياتها على نهر الأردن, محاولة أن تهمس فى عقولنا بأن الأرض الضائعة ستزال حاضرة في ذكرياتنا وهويتنا مهما تملص التاريخ, وزيفت الحقائق,وتبدلت الأوطان.


ورسمت الراوية بالألة السينمائية فى قصة "البجعة التى اضاعت ابنتها أثناء الطيران وظلت تبحث عنها طوال الفيلم , وفى النهاية وجدتها وحملتها فى فمها الكبير , ساعتها اطمأنت روحى  ونمت ملء جفوني", لنتوقف ونسأل من البجعة؟ وكيف اضاعت ابنتها ؟ ورغم ذلك كانت نهاية كلاسيكية سعيدة .


ولكنها تعاود سرد الحكاية بشكل أشد وطئا بقصة كامل الكيلانى عن الأب الذى ذهب ليصطاد الدببة فى جبال ثلجية ومات, ثم ذهبت ابنته للبحث رغم تحذير أمها حتى ماتت متجمدة.


فهل هذه هى تلخيص لرحلة غرام وما حدث لهم فى الغربة؟
هذا ما كانت تبحث فيه الكاتبة بفضاءات مفتوحة للنص عبر السؤال
بدأت لماذا كنا نتصور على السطح؟
هل لأننا كنا نمتلك فضاء بلادنا وقتها؟
لم أحببت سطح بيتنا؟
وكانت إجابة غرام وهى طفلة عن تلك الأسئلة أنها خلقت عالم ممكن وموازي للسرد هو مملكة" سويدر" وجنايتها , العالم الذي لا يعرفه سواه ولا يملك زمام مملكته غيرها, ربما هو عوض عن العالم الواقعي الذي لم تستطع أن تقبض فيه على زمن من الطمأنينة بدون خوف وانتماء بلا أرض.
وبالنظر إلى سميائيات عتبات كل فصل فى الرواية فما هو إلا محاكاة بين الأنا والآخر سواء كان هذا الآخر أشخاص أو أماكن وأحداث كانت ولا تزال على يمين القلب.


فقد بدأت بعلاقة الأجداد ربما هما مصدر اللعنة أو مركب النجاة, ربما ينصفهم التاريخ أو يثقلهم بأوزار . جاءت عائلات اليهود السفارديم وجاءت رحيل إلى أرض الميعاد وتزوجت كوهين وأنجبت جويا ويعقوب, ولكن سمحا الجدة كانت صوت العقل وقبول الآخر وسط التشدد الصارم لتعاليم التوارة حتى كبر الطفلين وباتا شابين فى أوساط إجتماعية امتلاءت بالإنسانية بين كل الديانات السماوية بلا تفرقة قبل أن تفرق الأرض وتقام دولة الأحتلال  .


وهنا تظهر لنا علاقة جديدة تحسم الجدل رشيد يقابل جويا الجميلة ويتزوجا وينجبا والدة غرام .


ويتوقف السرد ثم تعاود غرام سرد قصة زواج أبيها من أمها أبنة رشيد وجويا  يبدو أن الكاتبة قصدت ذلك التباعد فى السرد بين الجدود و الأباء لتنقل لنا البعد بين الثقافات والشتات الديني الذى حدث بعد ذلك.


وفى خصوصية العلاقة بين الأم المسلمة والجدة اليهودية خلق تراتبيىة السرد في الأصالة والمغايرة , سعت تلك التراتبية لخلق منظورات للهوية فى ركب العولمة الجديدة للتاريخ العربي ولاسيما الفلسطينى.


أما عن الأب الشيوعى الذى امتثل للثقافة والفكر الوهابي لتزويج أبنتها برغم كونه يمتلك كل مقومات الحضارة من فكر وثقافة وفن ورسم وفوق كل ذلك هو دارس للجسد البشري فهو طبيب.


ترمى لنا غرام كرة مشتعلة برمزية هذا الأب بمتغيرات حداثية للسرد من دون كولونيالية الهوية , أو هوامش اتباعية متدنية, وبرغم انفتاح الشخصية إلا أن تعنصرها الشوفينى وانغلاقها القومي سار إلى تطور الشخصية والحدث إلى عدم الخروج من شرنقة التبعية الأصولية حينما حاولت اللجوء له والأحتماء فيه بعد إهانتها من زوجها, فما كان منه إلا طردها.


وهو ذاته نفس الشخصية التى اكتشف أن الله موجود حينما ثبت علميا وجود الثقوب السوداء فى الفضاء.


ودائرية النص فى كل محنة لغرام نجدها حين تحاول أن تعيد صياغة حياتها فى تلك الغربات المتعددة , والصوت المتشظي فى كسر كيانها منذ حادثة" الأسد" الذي حاول أن يتحرش بها .جعل السرد يدور فى سياق تفاعلى للسؤال "لم ظننت بأن ما فعله الأسد خطيئتي وليست خطيئته؟


هذا هو كسر للتكرار النمطى من قيد المرأة طول الوقت بحاجز الخطيئة بكونها هى مصدر الدنس وحبكة الداء, حاولت الكاتبة كسر تلك الطوبايات المغلفة بالتقاليد "مر فى حياتى أسود كثيرة ..حتى فهمت بأن العار هو صمتى عن كشف الأنياب". 


وهكذا تظل الأسئلة الاندماجية للسرد تحيط بوعينا الكوزمو بوليتي وما فيه من حدود متداخلة ومسافات عابرة .أخذتنى ماما فى شهر رمضان للقدس, لتصلي الجمعة اليتيمة فى مسجد الأقصي, تساءلت لم هى يتيمة هذه الجمعة ,هل مات أبوها أم أمها؟ , فصلت دون وضوء لكسب الرقم الضخم لصلاة داخل الأقصي التى تعادل سبعين ألف ركعة.


تتأرجح غرام بين التوارى والظهور فى محاورة الواقع عبر اللغة, فبرغم من كون اللغة بسيطة , لكنها تحمل أبعاد تجعل الخطاب السردي النسوي فى حالة من المركزية, وأحيانا التفكيك.


فهى انعكاس واقعى لما عانته المرآة العربية من سياقات مرجعية كالأضهاد والكبت والسكوت والأنزواء والعزلة والحرمان .


فالكاتبة أخذت السرد زريعة تزرع فيه الأنساق التفاعلية والانطباعية عبر مواقف غرام منذ ظلم معلمتها لها وأصرارها بضربها  , ثم ضرب زوجة أبيها , ثم ضرب أبيها لها طول الوقت,وحتى فى ممارسة الجنس فى ليلة العرس مع زوجه اعتبرته حق ضائع كالأرض التى رحلت عنها .


وفى أثناء ذلك تلوح لنا ب"راشيل" المرأة اليهودية التى صاغتها ذكريات الماضي , دلالات غائبة عن حاضرنا, وعى زائل, تتنتجه لنا ببراعة فى تابو خفي تتباعد بسببه المسافة بين الماضي والآني .


وقد لحظنا ذلك فى المستويات التركيبية والدلالية التى يصوغها السرد " استقرار- خروج – اضطراب".


وقد شدت الكاتبة وثاق الرحلة بطبائع الفلكلور التى وضعتها أمام أسبقية الاختيار بين الطرح السوسيولوجي السياقي التاريخي , وبين اعتماد السيرة الذاتية كمدخل للولوج إلى الكيس الأسود الذي تضع فيه كل انكساراتها.


فكسرت غرام جدار الواقع بتلك الانكسارات منذ أن قدمت باقة الورد للملك, واشتراكها فى الأعمال السياسية التى من المفترض أنها تخلق رأى حر, لكنها فى الحقيقة حلقة مختلفة من حلقات القمع الفكري.


وصولا إلى الزواج المبكر الذى أنجبت منه مرارة الخذلان المتجدد بعودة الأرض وعودة الهوية فصوت الراوية الذي كان يشع أمل رغم كل هذه الحروب والتشتت والانتقال, ليس فقط انتقال جسدي ولكنه استلاب لوعى كامل فى الاردن والكويت ومصروكل البلاد التى مرت عليها ,فعلى اللاجىء أن يعيد صياغة هويته ألف مرة ليتكيف مع الثقافة المطروحة أمامه والتى لم تسمع عنها  فى مذياع غرام الذى أحضره والده  " إذاعة صوت العرب من القاهرة ".


واقتحم صوت غرام سكوت وخفوت وهى تحاول أن يكون لها صوت خاص ومسموع تبحث فيه عن  إشتراكية الذات للوقوع فى الحب منذ حبها الأول لمحمد زميلها ثم بعد ذلك ناجى الذي لا يأتى أبدا. وإلي الزوج الذى قررت أن ترحل عنه كما رحلت مغصبة عن أرضها , لتنال بهذا الخروج تعسف أخلاقي بتشويه سمعتها الأخلاقية أمام أبنتها بعدما أخذها بموجب قانون إضهادي .


وأصبح الاكتئاب فى نهاية السرد بطل جديد له نزوع خاص من الأستقلالية فى محنة جديدة  ولكن هذه المرة للمتقلي.
لتجبرنا على سؤال أنفسناهل نحن فى مقتبل المحنة مع الآخر أم تجاوزنا ذواتنا فقط؟.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة