فى الخامس والعشرين من يناير 2025، حينما انطلقت قافلة أسرى الحرية نحو محطتهم الجديدة، كانت الريح تعصف بمن بقى، وكانت العيون تتابع، والقلوب تخفق، والأيدى تتشبث بأمل باهت يتجدد مع كل صفقة، ومع كل صوت ينطلق من خلف القضبان.
ثلاثة أشقاء خرجوا من ظلام السجن إلى ضوء المنفى، خرجوا بعدما أتموا ما ظن العدو أنه حكم أبدى، لكنه لم يكن سوى محطة فى مسيرة طويلة عنوانها «الصمود»، مجبرين على ترك رابعهم وخامسهم فى سجون إسرائيل.
نصر وشريف ومحمد أبو حميد وإسلام وناصر، خمسة أشقاء، أبناء «خنساء فلسطين»، كانوا من أصحاب المؤبدات فى السجون الإسرائيلية، خرج أول ثلاثتهم، ولم يخرجوا، تحرروا ولم يتحرروا، غادروا السجن إلى مصر، أم الدنيا، لكنهم بعيدا عن البيت والأم التى طال انتظارها فى الغياب، والزوجة التى لم يلتقيها محمد أبو حميد، حتى اليوم.
عائلة أبو حميد، واجهت أحكاما قاربت 2000 عام، حيث إن المؤبد «يساوى 99 عاما حسب القانون العسكرى الإسرائيلى» لمرة واحدة أو عدة مرات، فحكم على «نصر» بالسجن 5 مؤبدات وقضى فى سجون الاحتلال 33 عاما، وشريف واجه 4 مؤبدات، قضى منها 32 عاما، ومحمد مؤبدين، و30 عاما أخرى، قضى منها 23 عاما، وإسلام يواجه حكمين بالمؤبد، وناصر الذى استشهد فى السجن، كان يواجه 7 أحكام بالمؤبد و50 عاما أخرى.
من الطوفان إلى الرمال.. مسيرة الألم والأمل
حينما اجتاحهم الطوفان، لم يكن سؤال البقاء مطروحا، فقد كانت القضية دائما أسبق من الأجساد، والوطن أسبق من الألم.
محمد أبو حميد، 45 عاما، كان شابا فى الثانية والعشرين من عمره حين انقضت عليه يد الاحتلال، مكث بين جدران سجن نفحة الصحراوى بإسرائيل، 23 عاما، وحين خرج كان قد أمضى نصف عمره بين الجدران، نصف عمر لم يكن فيه إلا الألم والصبر... والمقاومة.
اعتقل عام 2002 وحكم عليه بالسجن المؤبد مرتين و30 عاما «228 سنة»، حرم من أحضان والديه، إلى أن فقد الأب وهو فى الأسر عام 2014، هدم منزل العائلة أكثر من 4 مرات.
يقول: «منذ بدء الطوفان.. عام ونصف بقطعة ملابس واحدة، فراش لم يتغير، طعام لا يصلح للبشر، وأجساد تتآكل حتى العظام.. مات منا من مات، وبقينا نحن على أمل لم يمت».
يروى لنا أنه لم ير الشمس والضوء منذ 15 شهرا، حيث وضعه الاحتلال فى غرفة مكتظة تصل لـ17 فردا، مساحتها 6 فى 3 أمتار، ومنعوهم من كل مقومات الحياة، ليمضى بذلك 23 عاما من 45 عاما هى كل عمره، لكنه يقول إنه «كل ده مش خسارة فقضيتنا تسحق العمر كله.. ولو الأمر استمر لأكثر من ذلك فأجسادنا لم تكن لتقوى على الصمود أكثر من ذلك، تعرضنا للعديد من الأمراض الجلدية والجرب، وتآكلت جلودنا حتى وصلت للعظام، منعوا عنا العلاج وحرمونا من الطعام لعام ونصف إلا الردىء الذى لا يصلح للاستهلاك البشرى وعانينا الجوع والبرد والموت.. واعتدوا علينا بالضرب بشكل يومى، وأهانونا.. حتى فقدنا العديد من إخوتنا الذين ارتقوا أمام أعيننا شهداء».
ابن «رام الله» يكشف لنا، عن وجعه الأكبر.. شقيقه ناصر أبو حميد، الذى لم يخرج، لكنه كان حاضرا فى ذاكرة إخوته، قضى 33 عاما فى السجن، حتى اختطفه المرض، سرطان الرئة كان حكما بالإعدام، لكن الاحتلال أراد أن يكون الموت أبطأ، أشد قسوة، أشد وجعا، كان يعانى ويتألم أمام أعيننا، تركوه يتوجع ويموت ببطء شديد.. مات ناصر رفضوا دفنه، وتحفظوا على جثته، ولم يسلموها، بقى أسيرا حتى وهو شهيد، محتجزا فى ثلاجات الموتى، كما احتجز حيا فى زنازين القهر.
كما تحدث الأسير المحرر، عن وجع آخر سبق وجع أخيه، فى 2014، حينما توفى والده، وغادر الحياة ولم يقدر أن يكون بجانبه أو بجواره، أو وداعه، كان عاجزا عن كل شىء، ظلام دامس، وحرمان من حقوق بسيطة، حتى من تشييع جثمانه، ثم معاناة شقيقه.
لا استسلام فى السجن
ابن رام الله، يعتبر أن اعتقاله داخل سجون الاحتلال كان خيارا، فوطنه كان وما زال مغتصبا، ولكنه لم يمت، والطريق كان واضحا منذ البداية، إما السجن أو الشهادة، واختارته الأقدار للسجن، لكن استغل محنته، فى طاعة الله، واستفاد بوقته فى العلم والدراسة، حيث دخل السجن وكان يحمل الشهادة الإعدادية، وخلال الـ24 عاما الماضية حصل على البكالوريوس فى العلوم الاجتماعية، ثم الماجستير أيضا، كما حصل دبلوم فى الصحافة والإعلام.
القدر والسجن.. بين الحب والغربة
لم يكن السجن عائقا أمام الحب، فالروح الحرة لا تُسجن.. محمد أبو حميد تزوج وهو فى الأسر، كتب كتابه وهو خلف القضبان، لكنه لم يرَ عروسه يوما، لم يلمس يدها، لم تلتق أعينهما إلا عبر رسائل الورق التى تخطت الأسلاك والجدران.
يقول: «23 عاما مرت، لكنها لم تكن خسارة، فالقضية تستحق العمر كله».
خرج، لكن ليس إلى فلسطين، إلى أرض أخرى كانت دوما أقرب البلاد إلى القلب، إلى مصر، الوطن الثانى، حيث حمله مصريون إلى بر الأمان، حيث شعر للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين أنه خارج قبضة المحتل.
يقول: «حين أخبرونى أننى سأذهب إلى مصر، ضحكت، فماذا تغير؟ هى فلسطين أخرى، هى أم الدنيا، وهى الوطن حين يضيق بك وطنك»، أخذونى لصحراء النقب، ارتفعت مشاعرى بالأمان وأنا أرى ضباطا مصريين يحتضنوننى وينقلوننى معهم.. شكرا لمصر قيادة وشعبا، بعد أن وفروا لى كل شىء، الآن أنا أنعم بحياة كريمة بحق، ولا أشعر بالغربة، بل فى وطنى، وهذا ما نقلته لأهلى فى فلسطين عن شعورنا بالسعادة فى أرض مصر الحبيبة.
ويؤكد: مصر بلدى الأم وبلد كل عربى حر، والمجهود الذى قام به الرئيس عبدالفتاح السيسى ووقوفه بجانب الشعب الفلسطينى، فالجيش المصرى وشعبه يرفع الرأس ووجودى على الأرض المصرية تاريخ ميلاد جديد لى، فأنا بدأت حريتى على أرض مصر وترابها، كما يؤكد أن مصر وفرت له كل شىء، وليس غريبا عليها ولا على قيادتها أو شعبها الأصيل، موجها رسالته للأشقاء: «اصبروا وصابروا ورابطوا وإن شاء الله الفرج قريب، وأنتم على أعتاب وأبواب بالحرية.. مات أحدنا وأفرج عن ثلاثتنا ويتبقى آخرنا وهو إسلام».
حين يصبح البعد قدرا.. والوطن ذاكرة
فى الحقيقة لم يكن خروج «محمد» انتصارا كاملا، حيث يرى أن الوطن لم يعد كما كان، والأم لا تزال تنتظر، خرج ثلاثة.. لكن اثنين ما زالا فى الأسر، جثة ناصر، وإسلام قابع هناك، شاهدين على القصة التى لم تكتمل، وحلقة فى سلسلة لم تنتهِ بعد.
وفى النهاية، كانت مصر محطتهم الجديدة، لكنها لم تكن النهاية، لأن القصة لم تُكتب نهايتها بعد، لأن الأبواب التى تُفتح أمام الأحرار لا تعنى نهاية الرحلة، بل بداية فصل جديد من النضال، من الغربة، من الصبر، وفى قلب محمد، كما فى قلوب كل من خرج ولم يعد، هناك يقين واحد: «الوطن لا يغيب.. حتى وإن غاب الجسد عنه».

