توجه السفير البريطانى «اللورد كيلرن» للقاء الملك فاروق فى التاسعة مساء، واصطحب مجموعة خاصة منتقاة من الضباط الأقوياء المسلحين تسليحا كاملا، يوم 4 فبراير، مثل هذا اليوم، 1942، حسبما يذكر فى مذكراته، ترجمة «عبدالرؤوف أحمد عمرو».
كان اللقاء ذروة حادث «4 فبراير» الشهير، وسبقه إنذار «كيلرن» إلى فاروق ونصه: «إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا دُعى لتأليف وزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث»، ويصفه الدكتور محمد حسين هيكل باشا نائب رئيس حزب الأحرار الدستوريين فى الجزء الثانى من مذكراته، قائلا: «من الأيام الحالكة السواد فى تاريخ مصر، وفى تاريخ إنجلترا، فى مصر هو يوم يؤرخ الناس به كما يؤرخون بيوم دنشواى «1906»، أو بموقعة التل الكبير «1882»، أو بضرب الإسكندرية «11 يوليو 1882»، أو بمثل هذه الأيام التى لا تمحى ذكراها على الأجيال».
يكشف «كيلرن» أسرار لقائه بالملك، وبغطرسة المستعمر والاستخفاف بالطبقة الحاكمة المصرية، يقول: «فى الطريق مررنا بين صفوف متراصة من القوات المسلحة البريطانية، الذين أحاطوا بالطرق المؤدية إلى القصر، وبينما نحن نصعد سلم القصر إلى الطابق العلوى، كنت أسمع أزيز السيارات المصفحة، وهى تأخذ مواقعها للسيطرة على مداخل ومخارج القصر».
يضيف: «مرت خمس دقائق تأخير قبل استدعائى لمكتب الملك، لم أكن مستعدًا للانتظار أكثر، الأمر الذى جعلنى اندفع إلى حجرة الملك، وعندما حاول رئيس التشريفات منع الجنرال «ستون» من الدخول معى، أزحته من طريقى، ودخلنا وسط ضجيج وهياج، انزعج الملك، واقترح بقاء أحمد حسنين باشا، فوافقته، وبدون مقدمات، قلت: حددت الساعة السادسة 6 مساء بالإجابة بنعم أولا على رسالتى إليك هذا الصباح، وبدلًا من ذلك، فإن «حسنين باشا» حضر لى الساعة السادسة والربع مساء بمعلومات لم أوافق عليها، وأريد إجابة الآن، وبدون مراوغة أكثر من هذا، عما إذا كان الرد بالنفى».
يكشف «كيلرن»: «سعى الملك إلى المجادلة فى أمور لفظية وردت فى الإنذار، ومن ثم لم أترك له فرصة الحديث قائلا- مع رفع صوتى بغضب وحدة- بأن الأحداث غاية فى الخطورة، أعتبر ذلك ردًا بالنفى، وإزاء هذا، أرغب طبقا لمسؤولياتى الاستمرار فى مهمتى، وقرأت عليه بحدة وانفعال، وشعور بالغضب، وجهات نظرى، وسلمته خطاب تنازله عن العرش، قائلا له: «عليك أن توقع هذا فورًا، وإلا سأضطر لاتخاذ إجراءات أخرى غير سارة أواجهك بها».
يصف «كيلرن» حالة فاروق: «تردد الملك للحظات، وهمَ أن يوقع على خطاب التنازل عن العرش، لولا أن اعترض حسنين متداخلًا، وبعد لحظة مشوبة بالتوتر، انتبه الملك الذى روعه التهديد تمامًا، وطلب منى بنبرة حزن تخلو من تبجحه السابق إعطائه فرصة أخرى، وأجبته، يجب أن أعرف بشكل قاطع ماذا تقترح ردًا على ما سبق، أجابنى بأنه سيستدعى النحاس فى الحال، وفى حضورى إذا أردت، وأكلفه بتشكيل الوزارة، أكدت عليه بوضوح بأنه يقصد حكومة النحاس وباختياره هو شخصيًا، وتعمدت التردد لبرهة من الزمن، وشعرت بميل أن أعطيه فرصته الأخيرة».
يضيف «كيلرن»: «أجاب الملك بانفعال شديد: تقديرا لوضعى ولمصالح الدولة سأستدعى النحاس فورًا، قلت له: إنى موافق، ثم بعد ذلك حاول برغم آلامه النفسية أن يتظاهر بالود والبشاشة، ثم بعد ذلك شكرنى بصفة شخصية لأنى دائمًا أحاول مساعدته».
يصف «كيلرن» مشهد خروجه بعد انتهاء المقابلة: «مررنا عبر الممرات المليئة بالضباط الإنجليز، وخدم القصر المنتشرين مثل الدجاج المفزوع فى القصر، وفى المدخل، حيث يوجد مجموعة ضباط فى كامل استعدادهم العسكرى برشاشاتهم الآلية، وأصابعهم على زناد الإطلاق، وبمجرد أن مررنا من أمامهم أديت لهم التحية العسكرية، والشكر، ومررنا وسط كوكبة من المصفحات والدبابات، وهى على أهبة الاستعدادات العسكرية، وكانت فى كامل لياقتها».
يضيف: «عدت إلى السفارة، وطلبنى تليفونيًا حسنين باشا سائلًا ما إذا كان فى إمكان القوات المسلحة أن تنسحب من حول القصر حتى لا تعوق حضور النحاس، ووعدته أن أنظر فى هذا الشأن، وبعد نصف الساعة حضر النحاس إلى السفارة بعد أن ذهب للقصر لمقابلة الملك، الذى نفذ ما وعدنى به، وكلفه الملك بمقابلتى ليعرفنى بكل ما تم».
يضيف «كيلرن»: «حقيقة كان هذا الغلام «فاروق» تحت سيطرتنا تمامًا، وصدم أكبر صدمة فى حياته فى إجباره على قبول النحاس، وآمل بل وأعتقد بأننا سوف نكون قادرين على قصقصة جناحيه وتقليم أظافره، وبهذا نستطيع تطويعه لصالحنا فى المستقبل».
يكشف محمد التابعى فى كتابه «أحمد حسنين باشا»: «منعت الرقابة نشر أى خبر عن هذا العدوان، كما منعت أية برقية إلى خارج مصر، وفى صباح 5 فبراير 1942 توجه النحاس لمكتبه برئاسة مجلس الوزراء، واللجان الوفدية استدعيت لتهنئة الرئيس الجليل، والشعب يجهل تماما ما حدث، وانطلقت المظاهرات إلى دار الرياسة تهتف بحياة النحاس باشا، وأقبل السفير البريطانى ليهنئ النحاس ثم خرج الاثنان معا إلى الشرفة وأيديهما متشابكة».