أكد المؤشر العالمي للفتوى (GFI) التابع لـ دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن فلسفة الفتاوى السلوكية أو الأخلاقية في الإسلام ليست مجرد أحكام فردية، بل هي امتداد لفلسفة أعمق تتعلق بتنظيم حياة المسلم في جميع جوانبها، مشيرًا إلى أن الفتاوى السلوكية تلعب دورًا مهمًّا في موازنة الواقع المجتمعي، وتستند هذه الفتاوى إلى مصادر الشريعة الإسلامية الأساسية: القرآن الكريم والسنّة النبوية المشرفة وإجماع العلماء وقياسهم.
وقام مؤشر الفتوى برصد (200) فتوى صادرة من المؤسسات الدينية الرسمية، أبرزها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، خلال الأشهر الثلاثة السابقة، تعلَّقت تلك الفتاوى بالسلوك والأخلاق، مشيرًا إلى أنها دارت حول خمسة محاور، تصدرها موضوع (الحفاظ على القيم السلوكية في المجتمع) بنسبة (26%)، ومن ذلك فتوى لدار الإفتاء أكدت أنه يجب شرعًا على الأبوين أن يحرصا على تربية أبنائهما على محاسن الأخلاق منذ الصغر، كما أطلقت الدار حملةً بعنوان: "خُلُق يبني"، للمساهمة في مواجهة السيولة الأخلاقية وإعادة منظومة القيم السلوكية في المجتمع.
وأضاف مؤشر الفتوى أن موضوع (حل المشكلات المعاصرة المتعلقة بالتحديات الأخلاقية) جاء في المرتبة الثانية بنسبة (23%)، ومن أمثلته تأكيد مجمع البحوث الإسلامية على توظيف التكنولوجيا الحديثة في حل المشكلات المرتبطة بالتحديات الأخلاقية، كما يشارك الأزهر بمعرض الكتاب هذا العام (2025) بإصدار تحت عنوان: "أخلاقنا"، والذي يُسلّط الضوء على أهمية الأخلاق في الإسلام باعتبارها الأساس لعلاج التحديات المعاصرة.
وأضاف مؤشر الفتوى أن محور (توحيد الرأي وتجنب الخلافات التي تؤدي للانقسام) حلَّ ثالثًا بنسبة (20%)، ومن أمثلته تأكيد كل من دار الإفتاء ومركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية على توحيد الرأي وتجنب الخلافات وزعزعة استقرار المجتمعات.
في حين جاء موضوع (تقديم المؤسسات الدينية للاستشارات الأخلاقية) في الترتيب الرابع بنسبة (18%)، ومن أمثلته تقديم دار الإفتاء من خلال وحدة "الإرشاد الزواجي" استشارات متخصصة تُسهم في تجاوز المشكلات الأخلاقية بين الزوجين بشكل خاص والأسرة بشكل عام.
وتابع مؤشر الفتوى أن محور (مكافحة الانحرافات والتطرف السلوكي ونشر قيم التسامح) جاء في المرتبة الخامسة والأخيرة بنسبة (13%)، ومن أبرز نماذجه تأكيد كل من (مرصد الأزهر لمكافحة التطرف) ومركز (سلام) التابع لدار الإفتاء المصرية على إعلاء ونشر الفتاوى التي تحث على قيم التسامح والوسطية والاعتدال في المجتمع.
الضرورات الخمس في مقاصد الشريعة وأثرها على الفتاوى السلوكية
وانتقل المؤشر العالمي للفتوى إلى الحديث عن العلاقة الوثيقة بين الفتاوى الأخلاقية التي تتناول سلوك الإنسان في شئون حياته المختلفة وتسعى إلى توجيهه نحو ما فيه الخير والصلاح، وبين الضرورات الخمس في مقاصد الشريعة الإسلامية، وهي (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل).
واستشهد مؤشر الفتوى ببعض الفتاوى السلوكية والأخلاقية التي ترتبط بالضرورات الخمس المذكورة، فمقصِد "حفظ الدين" يشتمل على فتاوى تسعى إلى حفظه وحمايته من الانحرافات السلوكية، ومن ذلك فتاوى تتعلق بالعقيدة والعبادات والمعاملات، كفتاوى أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج، والتعامل مع غير المسلمين، والصدق والأمانة والرحمة والتسامح وبر الوالدين...إلخ.
أما الفتاوى السلوكية المرتبطة بمقصد "حفظ النفس" فأشار المؤشر إلى أنها تبغي حماية النفس البشرية من كل ما يضرها، سواء كان ذلك ضررًا جسديًّا أو نفسيًّا أو صحيًّا، كفتاوى تحريم القتل والتعذيب والانتحار، وفتاوى حماية الأرواح والأسرى في الحروب، وفتاوى حماية الأجنّة وتحريم الإجهاض إلا في حالات محددة وبقرار من طبيب شرعي، وفتاوى الحفاظ على البيئة، حيث إن تلوث البيئة يؤدي إلى أمراض وأوبئة.
وتطرق المؤشر إلى فتاوى مقصِد "حفظ النسل" التي ترتبط بالسلوك والأخلاق، مبينًا أن غايتها حفظ النسب وحماية الشرف والعِرض، ومن ذلك الفتاوى التي تخص الزواج، والطلاق، وحضانة الأطفال، وتوجيههم نحو الخير.. إلخ.
وأكد مؤشر الفتوى أن "حفظ المال" هو أحد المقاصد الكبرى التي جاء بها الإسلام، وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العديد من الآيات والأحاديث التي تؤكد على أهمية هذا المقصد، لافتًا إلى أن الفتاوى التي تتعلق بـ"حفظ المال" هي تلك التي تبين الأحكام الشرعية المتعلقة بحماية المال من الضياع أو السرق أو الغش، وتحث على حسن التصرف فيه.
وتابع مؤشر الفتوى أن أبرز الفتاوى التي تتعلق بهذا المقصد وتقرها المؤسسات الرسمية دومًا؛ فتاوى تحريم السرقة بكافة أشكالها، علنيةً كانت أم خفية أم كانت نوعًا من أنواع الاحتيال الإلكتروني، وكذلك تحريم الرشاوي والغش في البيع والشراء، والغش في الميزان والمكيال والذي يعدّ من أكبر الكبائر، وتحريم الربا بكل أنواعه، وتحريم الإضرار بالمال العام وممتلكات الدولة، والتبذير، وفتاوى الحفاظ على المال وعدم إهماله أو تركه عرضة للضياع، كما وضع الإسلام قواعد واضحة للشراكة في الأعمال والتجارة بين المسلمين.
وأخيرًا أوضح مؤشر الإفتاء أن الشريعة الإسلامية اعتنت أيما اعتناء بالمقصد الخامس من الضرورات الخمس وهو "الحفاظ على العقل"، فبه يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات، لذا وضع الشارعُ الحكيمُ العديدَ من الأحكام التي تحمي العقل من كل ما يؤذيه أو حتى يفسده.
وذكر المؤشر أن أبرز الفتاوى السلوكية المتعلقة بـ"حفظ العقل" كانت: تحريم الشريعة الإسلامية للخمر والميسر لتأثيرهما على العقل وتعطيل التفكير السليم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: 90]، وكذلك تحريم المخدرات والمؤثرات العقلية، وتحريم الذهاب للسحرة والدجالين والعرّافين والمشعوذين، والحث على أهمية العلم والمعرفة.
الفتاوى السلوكية والتكنولوجيا.. تحديات وفرص في عصرٍ يشهد تطورات تكنولوجية متسارعة تؤثر بشكل عميق على مختلف جوانب الحياة، انتقل المؤشر العالمي للفتوى إلى الحديث حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الفتاوى السلوكية والأخلاقية، ما يتطلب من المؤسسات الدينية مواجهة تحديات جديدة في إصدار الفتاوى السلوكية، وفي الوقت نفسه تفتح تلك التحديات آفاقًا جديدة لتبليغ الرسالة الدينية.
واعتبر مؤشر الفتوى أن أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات الدينية في هذا الإطار: سرعة التغير التكنولوجي وانتشار المعلومات الدينية المضللة والفتاوى المغلوطة، حيث تسهّل التكنولوجيا وأدوات الذكاء الاصطناعي انتشار ذلك، مما يجعل من الصعب على عوام الناس التمييز بين المعلومات الدينية والفتاوى الصحيحة من غيرها.
ولفت مؤشر الفتوى إلى أن من التحديات التي تواجه المؤسسات الدينية لضبط الفتاوى السلوكية أيضًا، تعدد مصادر الفتاوى وخصوصية البيانات، حيث تتوفر الكثير من مصادر الفتوى عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، مما يزيد من حيرة الناس ويجعل من الصعب عليهم تحديد المرجعية الدينية الموثوقة، بالإضافة إلى إتاحة أدوات الذكاء الاصطناعي عبر بياناتها الضخمة قضايا تتعلق بخصوصية البيانات وحماية المعلومات الشخصية، مما يطرح تحديات أخلاقية ودينية وفتاوى معاصرة.
ورغم التحديات السابقة، إلا أن مؤشر الفتوى اعتبر أن هناك فرصًا سانحة للمؤسسات الدينية توفرها وسائل التكنولوجيا الحديثة، أهمها نشر الوعي الديني، حيث يمكن استخدام التكنولوجيا في وصول الفتاوى السلوكية المنضبطة لشرائح واسعة من الناس، وبخاصة الشباب، كما تتيح التطبيقات المختلفة عبر سائل التواصل الاجتماعي فرص التواصل المباشر مع الناس؛ ومن ثم الإجابة عن فتاواهم واستفساراتهم.
وتابع المؤشر أن من بين الفرص التي توفرها الوسائل الحديثة للمؤسسات الإفتائية، تسهيل الوصول إلى الفتاوى، حيث يمكن لتلك المؤسسات إنشاء قواعد بيانات رقمية للفتاوى وتوفيرها عبر الشبكة العنكبوتية والوسائل الحديثة، مما يسهل الوصول إليها، كما تُيسّر التكنولوجيا الحديثة التعاون بين المفتين والعلماء والباحثين في مختلف أنحاء العالم، مما يساهم في إثراء الحوار الفقهي وإصدار فتاوى سلوكية أكثر عصرية وشمولية.
وفي النهاية، أوصى مؤشر الفتوى بالرجوع إلى المؤسسات الدينية الرسمية وعلماء الدين الموثوقين عند الحاجة، وتجنب الاعتماد على الشائعات والاختلافات التي قد تؤدي إلى الفتن والفرقة.