مايكل فارس

قادش ومعاوية والجولاني.. جيوسياسية سوريا الملعونة (2)

الجمعة، 21 فبراير 2025 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ذكرت في الجزء الأول من المقال، خريطة توازنات القوى، في المشرق خلال عصور ما قبل الميلاد، والتي ترنحت بين مصر وتركيا وإيران والعراق، بالمسميات الحديثة للدول، لتقبع سوريا حبيسة في وسط الأعاصير الضاربة من كل اتجاه، تخضع لمن غلب، حتى انحسرت القوى بين قوتين عظيمتين الإمبراطورية الساسانية التي أسسها الفرس، والإمبراطورية الرومانية في الشرق والمعروفة بالبيزنطية، بعد أن أطلق عليها المؤرخ الألماني هيرومنيموس فولف ذاك الاسم في القرن الـ16 ، وعاصمتها القسطنطينية، التي ظلت صامدة مدة ألف عام.

غساسنة سوريا ومناذرة العراق.. وصراع العروش
 

بدأت حرب تكسير عظام بين الإمبراطورية الساسانية بعد تأسيسها في القرن الثالث قبيل الميلاد مع الإمبرطورية الرومانية، على النفوذ والسيطرة، استمرت قرابة 4 قرون، استنزفا مواردهما المالية والعسكرية والبشرية، الأمر الذي أجبرهما على ضرورة تأسيس مناطق عازلة بينهما.
ظهرت مملكتان محليتان هما الغساسنة في سوريا و المناذرة في العراق، لتصبحا جزءًا من صراع العروش بين الإمبراطوريتين العظيمتين، فلم يمانع البيزنطيون في تأسيس مملكة الغساسنة عام 220م جنوب الشام كحليف استراتيجي لتأمين حدودهم الشرقية ضد الفرس، الذين سمحوا أيضا بتأسيس مملكة المناذرة حوالي 266م في العراق، وكانت عاصمتها الحيرة، على أن تكون حليفتهم وخاضعة لهم، وتعمل كحائط صد أمام الرومان، والقبائل "العربية" المعروفة لديهم باسم "الطائيين، الطاطائيين"، والمعروفة لدى الرومان باسم "السراسنة"، تلك الشعوب التي كانت تعيش بالنسبة لهم  في البوادي غرب نهر الفرات وجنوب سوريا حتى الحجاز، وعملت المملكتان كحدود عازلة بين الإمبراطوريتين، يتم استدعائهما حال اقتضت الضرورة للمواجهة، ولكن نار العداء تحت رماد الممالك العازلة ما تزال متقدة.

سوريا بين مخالب كسرى وهرقل 
 

لعل أشرس الحروب التاريخية بين الرومان والفرس ما سميت بالحرب الكبرى -610-628م، الغلبة فيها تأرجحت بين الكفتين، ونتائجها مستمرة إلى الآن، أرسل كسرى جيوشه بقيادة شهربراز ليشن هجوما كاسحا على أنطاكية "بسوريا" 612 م، وفشل هرقل في إيقافه، وتعرض لهزائم منكرة، لتتساقط مدن سوريا واحدة تلو الأخرى، وفي عام 613 انتزع الفرس دمشق، بل توغلو في قلب الإمبراطورية الرومانية فسيطروا على طرسوس وسهل قيليقية وهي مدن ساحلية "تركيا الآن".


بسقوط سوريا، خسر هرقل الامتداد الجيوسياسي الرئيسي لإمبراطوريه، قسّمت هذه الهزائم الإمبراطورية البيزنطية إلى نصفين، الأمر الذي مهد لاستيلاء الفرس على لبنان والأردن، ثم على القدس وتدمير كنيسة القيامة، ونقل الصليب المقدس – وهو الصليب الذي صُلب عليه المسيح بحسب المعتقد المسيحي - إلى فارس عام 614، فأصبح الطريق مفتوحا لإفريقيا عبر مصر، وقد سيطروا عليها وقبعوا قرابة 15 عاما قبيل طردهم مرة أخرى.

هرقل يقشع رياح اليأس
 

وجد هرقل إمبراطوريته تتهاوى كأوراق الخريف في مهب الريح، كيف وصل لهذا الضعف والانكسار؟ كيف خسر الدين في أخذ رمز المسيحية في العالم المسيحي كافه، وهو الصليب المقدس ونقله لفارس، والدنيا في انتزاع أراضيه بلدًا تلو الأخرى تتساقط في أيدي أعدائه كقطع الدومينو،  بلا حول له ولا قوه.


بعد الهزائم المتكررة، وقف هرقل متأملا بتحسر إمبراطوريته المتهالكة، ليتسائل كيف تحولت إلى خراب وقد أثقل الحزن فؤاده كسحابة سوداء غيمت في سماء بلا نجوم، رياح اليأس تضرب ضلوعه، فعرشه الذي كان رمزا للمجد والقوى أصبح ذكريات لا تغني ولا تسمن من جوع، وإذ بأشباح الفرس، تستبيح ممالكه وتهمس في أذنه "عصر العظمة ولى والآيام القادمة لنا" يحاول الإمبراطور المهزوم جاهدًا قشع رياح اليأس والعودة بالأمل إلى قلبه وقلب شعبه.


ويذكر المؤرخ الأرمني سيبوس الذى شهد تلك الحروب، في كتابه "تاريخ الإمبراطور هرقل"، تفاصيل تلك الحروب وآثرها النفسي على هرقل، وكيف شجعه بطريرك القسنطينية وأخرجه من سبات اليأس، ليزرع في قلبه الأمل من جديد، متشفعًا بالعذراء مريم، وكيف بدء يستجمع قواه مجددًا، بعد انتكاسات وهزائم منكرة، ليخوض حربا ضروسا لاستعادة ممتلكات إمبراطوريته.


وضع  هرقل خطة عبقرية لقلب المعادلة، وهي الالتفاف وترك البلدان الكبرى التي سقطت والتوجه مباشرة لقلب الإمبراطورية الفارسية، حتى حين حاول قادة جيوش الفرس احتلال مدن بيزنطية أخرى، تركهم متوجهًا لصوب هدفه، حتى التقى الخصمان في أرمينيا 622 م، ليسجل نصرا كاسحا، وفي عام 623 م توجه لقلب عاصمة الفرس في المدائن تقع على نهر دجله،  ونزل خبر قدوم جيش هرقل لكسري الثاني كالصاعقة على مسامعه، ليهرب وتستباح المدينة، ودخلها الرومان فأحرقوا معبدها الكبير وتعقبوا الفرس الهاربين وهم ينهبون ويدمرون، ثم رجع هرقل بالصليب المقدس مرة أخرى.


والتقي الجانبان في معركة كبرى عام 627 م، في نينوي – شمال العراق-  حسم خلالها هرقل الحرب بانتصار كاسح، لتدخل بعدها الإمبراطورية الساسانية في حالة من الفوضى الداخلية وتتحول لممالك متشرزمة تخوض حروبا أهلية وصراعات على الحكم، فبعد الحرب تعاقب على عرش فارس حوالي 14 حاكما خلال 9 سنوات فقط، الأمر الذي يعكس مدى الفوضى والانقسامات التي شهدتها الإمبراطورية، مما أدى في النهاية إلى انهيارها وسقوطها السريع أمام القوى "العربية" الصاعدة في القرن السابع الميلاد، وإذ بجيوشها تنتزع وتقتطع أرضي الفرس وبيزنطية قطعة تلو الآخرى.

انتصار بيروسي يمهد لصعود السراسنة
 

كان انتصار هرقل "انتصار بيروسي"، باهظا بطعم الهزيمة، كلفه خسائر فادحة، اقتصادية وبشرية، لم تعد القسطنطينة تلك مثل الأيام الخوالي ذات العصور الذهبية، فلم يستطع بعدها صد أي هجوم ضد "العرب" المعروفون لبلاده باسم "السراسنه أو ساراسين أو ساراكينوس"، لولا أسوار القسطنطينية المنيعة التي حمت بقايا أطلال القوة، لانتهى عصر الرومان في القرن السابع الميلادي.
كان العالم القديم في المشرق منقسما لقوتين عظيمين الفرس والرومان، ما نسميه حاليًا بعالم "ثنائي القطبين"، وخروج قطب من المعادلة يؤدي بالتعبية لخلل في موازين القوى الدولية،  فينشا فراغ في السلطة، فحين تسقط قوة محورية أو تتعرض لضعف شديد، يدفع ذلك القوى الأخرى للتحرك بسرعة لملء هذا الفراغ والسيطرة لإعلاء مصالحها.


وسقوط الإمبراطورية الساسانية وتحويلها لمممالك صغيرة متحاربة، يعني اختلال موازين القوى، فأشبه الحال بالحروب الباردة بين الاتحاد السوفيتي في العصر الحديث، والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي أدى بالنهاية لسقوطه، لينشأ فراغ دولي في السلطه، استغلته الولايات المتحدة بتوسيع حلف الناتو، من جهه واستغلته الصين في بناء ذاتها  اقتصاديًا وعسكريًا وملئ الفراغ الدولي.


حين سقطت سوريا تحت سيطرة الفرس، خسر الرومان امتدادًا جيوسياسيًا مهمًا، مما مهد الطريق أمام الفرس للتوسع في إفريقيا، وحين هزموا أمام هرقل حدثت فوضى وحروب أهلية داخل الإمبراطورية الساسانية مما خلق فراغًا في السلطة سهل دخول "القوى العربية" الصاعدة للمنطقة.
 

الفراغ السياسي بين حروب البيلوبونيس والحرب الكبرى
 

قبيل الحرب الكبرى بين الفرس والرومان، التي استمرت قرابة 26 عامًا، لنعد بالزمن لآلف عام مضت، حوالي 431 ق.م، حيث شهدت مدن اليونان بدء حرب شرسة عرفت باسم "حروب البيلوبونيس"، واستمرت حوالي 27 عامًا، كانت سلسلة من الحروب الطاحنة بين أثينا وإسبرطة، فخيم شبح الضعف عليهما، وأنهكهما عسكريًا بفقد الآلاف الجنود، واقتصاديًا بفقد الموارد، الأمر الذي أحدث فراغًا سياسيًا بسبب ضعف المدن الرئيسة، لم تعد أي مدينة قادرة على الهيمنة أو القيادة، مما جعل المنطقة مفتوحة لقوى أخرى.


استغل فليب الثاني حاكم مدينة مقدونيا في الشمال هذا الفراغ السياسي ليوحد عدة مدن تحت قيادته، وشكّل بجيش قوي مملكة مقدونيا، التي أخضعت كل المدن المنقسمة، ليبدأ عهد جديد ببزوغ نجم الإمبراطورية المقدونية، خاصة في عهد ابنه الإسكندر الأكبر الذي غير وجه العالم.

لمطالعة الجزء الأول من المقال اضغط

هنا

وللحديث بقية،،







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة