سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 13 فبراير 1991.. أمريكا ترتكب مذبحة ملجأ العامرية فى العراق بغارة جوية ألقت قنبلة عيار ألفى رطل لتقتل 403 بينهم 52 طفلا و261 امرأة

الخميس، 13 فبراير 2025 10:00 ص
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 13 فبراير 1991.. أمريكا ترتكب مذبحة ملجأ العامرية فى العراق بغارة جوية ألقت قنبلة عيار ألفى رطل لتقتل 403 بينهم 52 طفلا و261 امرأة مذبحة ملجأ العامرية فى العراق

أجهشنا بالبكاء، ونحن نشاهد بقايا للجثث ملتصقة بالجدران، وبجوارها ظلال، الجثث لأطفال وشباب وسيدات، بعضها عبارة عن جسد كامل، وأخرى بلا أذرع أو سيقان، لم تكن صورا مرسومة بريشة فنان، وإنما حقائق موجعة باقية وشاهدة على مجزرة «ملجأ العامرية» بالعاصمة العراقية بغداد، والتى نفذتها مقاتلتان أمريكيتين فجر الثلاثاء 13 فبراير، مثل هذا اليوم 1991 فى إطار عملية «عاصفة الصحراء»، وراح ضحيتها ما بين 403 و408، بينهم 52 طفلا أصغرهم لم يتجاوز عمره 7 أيام، و261 امرأة بين أمهات وفتيات فضلا عن 26 مواطنا عربيا.

كنت ضمن وفد مصرى شعبى يضم رموزا سياسية وفكرية وفنية ورياضية رفيعة، سافر إلى بغداد ليوم واحد فى نهاية 2002 كسرا لقرار الحظر الدولى المفروض على العراق من عام 1990 بسبب غزو الكويت، وفى فعاليات اليوم زرنا الملجأ الذى تحول إلى متحف يشهد على الجريمة الأمريكية الشنعاء.

رأينا المأساة، واستمعنا لشرح «أم غيداء» فسالت الدموع، قالت: نسيت اسمى الحقيقى، هو اتقتل معهم، كانت تقصد استشهاد كل أسرتها، زوجها، وأطفالها الثمانية وفيهم وردتها الكبيرة «غيداء» ابنة الـ13 عاما، أما هى فبقيت لعذابها، حيث فاتها الموت لأن القصف وقع أثناء ذهابها للمنزل لإحضار ما تيسر من لبن لأطفالها، وقبل عودتها بدقائق وقعت الجريمة، ومن يومها عاشت فى المكان تشرح المأساة للزائرين، فتسيل الدموع من القلوب قبل العيون.

كان «ملجأ العامرية» ومساحته 550 مترا، ضمن 38 ملجأ بنته العراق بقيادة صدام حسين فى أوائل الثمانينيات وقت الحرب مع إيران، وتكون من ثلاثة طوابق بجدران سميكة مصنوعة من الكونكريت «الأسمنت المسلح»، ويتسع لـ1000 شخص، وفيه جميع الخدمات من رعاية صحية إلى قسم ترفيه للأطفال، ووفقا لمسؤولين عراقيين كانوا معنا أثناء الزيارة، فإن الملجأ كان يعج بالحياة ويزخر بالأطفال الرضع الصغار وأمهاتهم، والشيوخ والمرضى الهاربين من جحيم القصف الأمريكى، الذى  تواصل تحت غطاء «التحالف الدولى» الذى تكون ضد العراق برئاسة صدام حسين.
كان الملجأ مكانا للأمان وهذه وظيفته الأصيلة طبقا للمواثيق الدولية التى تحرم ضرب المدنيين من الأساس، فما بالنا بمدنيين يختبئون فى ملاجئ، كما كان موجودا عليه علامات تشير إلى أنه ملجأ مدنى تتم رؤيته بالعين المجردة من مسافات عالية من الجو ومن الأقمار الصناعية.
داس سادة الحرب الأمريكيون بأحذيتهم وقذائفهم على كل هذا، فأرسلوا الطائرات لقصف الملجأ مرتين، ولم تنجح الأولى فى اختراق السقف، لكنها أضعفته مما سهل نفاذ الثانية، كان القصف الثانى عبارة عن قنبلة من عيار ألفى رطل، مقدمتها كتلة معدنية، تقاوم «الكونكريت» والحديد، وتخترق الجدران دون انفجار، ثم تنفجر فى الحيز الداخلى للمكان ما يؤدى إلى أكبر تدمير وقتل.
تحول الملجأ إلى فرن حرارى صاعق، وانصهرت أجساد الأطفال البريئة والأمهات والشابات والشيوخ بالجدران، كانت الأبواب مغلقة بإحكام لأن الضربة التى اخترقت سقفه أدت إلى إغلاقها آليا، وتعالت الصرخات واختلطت الأنفاس بدخان الأجسام المحترقة، وفى مشاهداتنا رأيت الجدران الملساء أصبحت سوداء قاتمة بسبب الأدخنة، وعليها أشباح آدمية بدت وكأنها مطبوعة على الجدران باللون الأبيض وكانت فى حقيقتها لضحايا فشل أصحابها فى التسلق للهرب فسقطوا لتلتهمهم النيران.
كعادتها بررت أمريكا جريمتها فى البداية بأن المكان يستخدم فى الأغراض العسكرية، ثم عادت وقالت إنه تم على سبيل الخطأ، ثم اعتذرت، لكن الاعتذار لم يعيد الضحايا إلى الحياة، ولم يحاسبها أحد، ولم يؤد إلى تذكير «أم غيداء» باسمها الحقيقى، وإنما عزز عندها وحسب قولها لنا: «ندرت نفسى لحكى جريمة الأمريكان، أطفالنا كانوا بيضحكوا وبيلعبوا ما بيقتلوا، لكن ضحكتهم ما حبها السفاح جورج بوش»، كانت تقصد بوش الأب الرئيس الأمريكى الذى قاد الحرب الأولى لتدمير العراق بعد غزو الكويت، ثم قاد ابنه الحرب الثانية  عام 2003 وانتهت باحتلال العرق.
فى بدايات شهر نوفمبر 1997 التقيت بالموسيقى العراقى نصير شمة، بعد سهرة له فى نقابة الصحفيين المصرية والتى عزف فيها على عوده مقطوعته «ملجأ العامرية»، واستمعنا من أوتار العود فى المقطوعة على صفارات إنذار وأزيز طائرات، وطلقات المضادات الأرضية وصراخ الأطفال وبكاءهم وصيحات الأمهات، ثم المشهد الجنائزى.
انتزع نصير شمة يومها آهات ودموع الحاضرين، وفى اليوم التالى التقيت به فى حوار خاص ولما حدثته عما مسنى أثناء عزفه لمقطوعته «ملجأ العامرية»، قال لى إنه كى يؤلفها عاش فى الملجأ لأيام، وعندما عزفها على عوده أمام الملجأ فى الذكرى الأولى للمأساة سقط مغشيا عليه مع آخر نغماتها، ولم يدر بنفسه إلا بعد إجراء عملية إفاقة له فى المستشفى.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة