نشبت الأزمة بين الحكومة المصرية وبين الحاكم العام للسودان البريطانى، حول وضع القائد المصرى فى الخرطوم الذى يقود خمسمائة جندى مصرى تحت قيادة الحاكم العام، فوفقا لنظام البروتوكول فى سراى الحاكم العام تقرر أن يدخل القائد المصرى مع من يدخلون إلى السراى فى الحفلات الرسمية من الباب رقم 2، لكن القائد المصرى احتج وأصر على أن يدخل مع كبار المدعوين من الباب رقم 1.
بدأت مباحثات طويلة وتبادل للمذكرات بين القاهرة والخرطوم، تطالب فيها الحكومة المصرية بدخول القائد المصرى من الباب رقم 1، وصدرت الصحف المصرية تحمل أنباء الأزمة ساعة بساعة تثبت مدى حرص الحكومة المصرية ودفاعها عن حقوق وكرامة مصر فى الخرطوم، وخيل للكثيرين وقتها أن الحرب قائمة لا محالة بين مصر وبريطانيا، أو أن مصر ستقوم بعزل الحاكم العام نتيجة تصرفه هذا، حسبما يذكر صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، والذى تولى ملف السودان.
يذكر «سالم» أن هذه الأزمة استمرت أياما، حتى اقتنعت بريطانيا ممثلة فى شخص الحاكم العام بأن القائد المصرى يجب أن يدخل فى حفلات الحاكم العام من الباب رقم «1»، وهكذا هدأت الأزمة التى وقعت قبل ثورة 23 يوليو، ويرويها «سالم» باعتبارها نوعا من الانتصارات المصرية فى السودان، ويصفها قائلا: «مظاهر، شكليات، قشور، كلها لا تقدم ولا تؤخر من الحقيقة الواقعة وهى أن السودان انفصل منذ عام 1899 رغم إصرار كل الساسة المصريين على مواجهة شعب مصر فى كل خطبة سياسية أو حفلة انتخابية أو خطاب عرش بأن السودان جزء لا يتجزأ من الأراضى المصرية، لم يقولوا قط أنهم باعترافهم بوفاق 1899 قبلوا حكم إنجلترا وحدها واقعيا للسودان، ومكنوها من فصم كل رابطة وتدمير كل علاقة بين القطرين».
يذكر «سالم» أن القضاء فى السودان أصبح دوائر من القضاء الإنجليزى، وقامت الحرب العالمية الثانية ووقفت مصر بجيشها على الحياد حتى انتهت وتفادت الزج بجيشها فى معارك هذه الحرب، أما «السودان الجزء الذى لا يتجزأ من مصر فأرسل جيشه إلى الكثير من ميادين القتال تحت الراية البريطانية»، ويدلل «سالم» بذلك على أن بريطانيا كانت هى التى تسيطر فعليا على السودان منذ توقيعها اتفاقية الحكم الثنائى مع مصر فى 19 يناير 1899.
ووفقا للدكتور محمد فؤاد شكرى فى كتابه «مصر والسودان»، فإن اتفاقية الحكم الثنائى أعطت لبريطانيا سلطة تعيين الحاكم العام للسودان، وألا يسرى على السودان أو على جزء منه شىء ما من القوانين أو الأوامر العليا أو القرارات الوزارية المصرية، ولا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأمورى قنصليات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة بها قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.
هكذا بقى حال السودان مع مصر محكوما باتفاقية الحكم الثنائى 1899، حتى كان توقيع اتفاقية تقرير مصيره بين مصر وبريطانيا، الخميس 12 فبراير، مثل هذا اليوم، 1953، ووقعه عن الحكومة المصرية اللواء محمد نجيب رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس قيادة الثورة وقتئذ، وعن الحكومة البريطانية السير «رالف ستيفنسون» السفير البريطانى بالقاهرة.
وحسب صلاح سالم: «كان الغرض من الاتفاقية إجلاء كل نفوذ أجنبى عن السودان خلال مرحلة انتقال فى سيبل تهيئة جو حر محايد يقرر السودان فيه مصيره دون أى ضغط أو تأثير من دولتى الحكم الثنائى»، وكانت هذه الاتفاقية حصيلة جهود اللجنة الخاصة بالسودان التى شكلتها ثورة يوليو، وتكونت من، صلاح سالم، حامد سلطان، حسين ذوالفقار صبرى، والسفير على حسنى زين العابدين.
ويذكر محمد فائق الذى شغل مسؤولية دائرة الشؤون الأفريقية برئاسة الجمهورية، فى كتابه «عبدالناصر والثورة الأفريقية» أن الاتفاقية نصت على فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات تتم فيها تصفية الإدارة الثنائية، ويكون للحاكم العام أثناء هذه الفترة السلطة الدستورية العليا، تعاونه لجنة خماسية فيها عضوان سودانيان، وعضو باكستانى، وآخر مصرى، علاوة على العضو الإنجليزى، وتقرر تأليف جمعية تأسيسية منتخبة لتقرير مصير السودان على أساس أحد الاختيارين: ارتباط السودان بمصر على أية صورة، أو الاستقلال التام أى الانفصال عن مصر، كما تقرر انسحاب القوات العسكرية المصرية البريطانية من السودان فورا عندما يعلن السودان عن رغبته فى اتخاذ التدابير الخاصة بتقرير المصير.
يؤكد فائق: «كانت هذه الخطوة واعية لأن عبدالناصر بموافقته على أن يكون لشعب السودان الحق فى تقرير مصيره، أثبت أنه يفكر ويتصرف بروح العصر، فقد أراد لأى رابطة تقوم مع السودان أن تكون منبثقة عن رغبة شعبية، وليست استنادا إلى حقوق مكتسبة من التاريخ أو حق الفتح كما كان يطالب البعض، كما رأى أنه مهما كان اختيار الشعب السودانى، فإن هذه الاتفاقية تضمن تصفية الوجود البريطانى فى السودان، وهذا هو ما كان يريده فى المقام الأول، فبقاء القوات البريطانية فى القطر الشقيق يهدد أمن وسلامة مصر، ولن يكون لجلاء هذه القوات عن مصر معنى حقيقى إذا كانت باقية فى السودان».