<< 733 يوما من الحرب لم تكسر حلمها وهزمت الحرب وحصدت التفوق
<< من قلب الشجاعية إلى صدارة القطاع.. نسمة النبيه واجهت الإبادة بالعلم والإصرار
<< شهادة طالبة هزمت الخوف بالتفوق: "لسنا أرقاما"
<< عائلتي تفرقت في مخيمات عدة ومع ذلك لم أتوقف عن الدراسة
في قلب مدينة غزة التي ما زالت تتنفس بصعوبة تحت وطأة الحرب والحصار، ووسط أصوات الانفجارات التي لا تهدأ، خرج نور صغير يشق الظلام ليقول إن الحياة ما زالت تستحق، نور اسمه نسمة إياد النبيه، ابنة حي الشجاعية، والطالبة المتفوقة الحاصلة على معدل 99.4% في الفرع العلمي، والأولى على مدينة غزة، فتاة لم تنتصر فقط على امتحانات الثانوية العامة، بل انتصرت قبلها على حرب طويلة امتدت لأكثر من 733 يومًا، خلفت الدمار والموت والمجاعة، لكنها لم تستطع أن تقتل حلمًا كان يكبر في قلبها كل يوم.
هذا التقرير ليس مجرد سرد لنجاح طالبة متفوقة، بل هو شهادة على إرادة لا تنكسر، وعلى جيل يتعلم تحت القصف، ويكبر قبل أوانه، ويحمل في داخله يقينًا بأن التعليم هو آخر ما تبقى للفلسطيني من سلاح.

الطالبة المتفوقة نسمة النبيه
فتاة تتحدى كلمة "توجيهي" في زمن الإبادة
تقول نسمة في حديثها لـ"اليوم السابع":"لما العالم يسمع كلمة توجيهي يمكن يفكروا توتر وضغط وقلق من الامتحانات، لكن نحن في غزة نفكر في شيء أكبر، نحن ندرس تحت حرب إبادة"، مضيفة : "في أماكن أخرى، تعني الثانوية العامة جزءًا من مسار الحياة الطبيعية، جزءًا يأخذ حيزًا كبيرًا من الاهتمام والقلق، لكنه يبقى في إطار الظروف الطبيعية: مدارس، معلمون، كهرباء، إنترنت، مكاتب دراسة، كتب متاحة، أما في غزة، فالقصة مختلفة تمامًا".
الثانوية العامة بالنسبة لنسمة لم تكن مجرد سنة دراسية، بل كانت معركة بين الحياة والموت، بين التركيز وسط القصف، ومحاولة استعادة الهدوء وسط كل هذا الفقد والخوف، كانت الدراسة فعل مقاومة بحد ذاته، ومواجهة للحرب التي حاولت أن تغتال المستقبل قبل أن يأتي.
اعتداءات إسرائيل على المدارس والجامعات
حرب وسنوات من النزوح.. بيئة لا تصلح للعيش ولا للدراسة
تسرد الطالبة المتفوقة تفاصيل حياتها الصعبة خلال الحرب، فتقول: "تعرضنا لخوفٍ ما يوصف، دمار من حوالينا، قصف فوق رأسنا، جوع، نزوح، نزحنا يمكن أكثر من 20 مرة في أماكن في الأساس لا تصلح للعيش، فكيف راح تصلح للدراسة؟".

ضحايا العملية التعليمية في غزة
أكثر من عشرين مرة اضطرت نسمة النبيه وعائلتها لحزم ما تبقى معهم من أغراض والنزوح إلى أماكن أخرى بحثًا عن بقعةٍ أقل خطرا، لم يكن هناك بيت واحد تستقر فيه، أو غرفة هادئة، ولا طاولة دراسة، كانت تتحرك من مخيم إلى آخر، ومن منزل مُستضاف إلى آخر، من دون شروط ولا ضمانات ولا مساحة شخصية.
تضيف:"نزحنا أكثر من عائلة في مكان واحد، وما كان هناك مناخ مناسب للدراسة، الأطفال يبكون، الناس خائفة، القصف لا يوقف، ومع ذلك كنت مضطرة أركز".
هي ليست قصة نزوح واحدة، بل سلسلة نزوح لا نهاية لها، في مدينة صغيرة أنهكتها الحرب، "نسمة" لم تكن تملك رفاهية الاعتراض أو التوقف، كانت كل لحظة هدوء فرصة يجب أن تستغلها للدراسة، رغم كل الصعوبات.

جانب من ضحايا العملية التعليمية في غزة
الكهرباء المقطوعة.. والإنترنت البعيد
منذ الأيام الأولى للحرب، اختفت الكهرباء تمامًا، وصارت البطاريات والشموع أدوات الحياة اليومية. ومع غياب الكهرباء، غاب الإنترنت أيضًا، وهو الوسيلة الأساسية للتعلم بعد توقف المدارس.
تتحدث عن تحديات صعبة واجهتها خلال الدراسة: "كنت أمشي مسافات بعيدة كي أصل لنقطة بها إنترنت لأنه ضعيف للغاية، والجوال لا نستطيع شحنه، ثم أعود من تلك النقطة البعيدة وأنا مرهقة، لكن كان لابد أن أدرس".
أن تمشي فتاة صغيرة مسافات طويلة في مدينة مدمرة، وسط خطر القصف والقنص، فقط لتحصل على بضع دقائق من الاتصال بالإنترنت، هي قصة تلخص المعاناة والإصرار معًا، فالامتحانات نفسها كانت تعقد في ظروف استثنائية، وفي أماكن غير مجهزة، ومع شبكة ضعيفة تجعل الامتحان يظهر ويختفي، وكأن القدر يختبر صبرها في كل سؤال.

نسمة النبيه الأولى على الثانوية العامة
التعليم كسلاح.. فلسفة الصمود لأهل غزة
وسط كل هذه الظروف، لم تفقد "نسمة" إيمانها بأن التعليم بالنسبة لهم ليس مجرد حق، بل واجب ووسيلة مقاومة، حيث تتابع: "نحن أهل غزة لابد أن نتحدى الحرب قبل تحدى التوجيهي، التعليم بالنسبة لنا سلاح، طريقنا للحرية، ليس فقط حق، بل واجب علينا نتعلم كي ننهض ببلدنا".
بهذه الكلمات تختصر الطالبة الفلسطينية فلسفة شعب كامل، يرى في التعليم وسيلة للبقاء والكرامة والوجود، ورغم كل الظروف، حملت نسمة حلمها على كتفيها، وتابعت الجهد والعمل.
الطلاب الضحايا من الحرب على غزة
شهران لإنهاء المنهج كاملًا.. وإرادة تتحدى المستحيل
من أكبر التحديات التي واجهتها نسمة النبيه هو غياب الكتب الدراسية والمواد التعليمية، حيث كانت الكتب نادرة وباهظة الثمن، فاعتمدت على كتب أخيها القديمة، وعلى تسجيلات الدروس التي كانت تحملها من أماكن بعيدة.
وتحكي هذه القصة بتفاصيلها قائلة: "ذهب إلى مدرسة أوائل وقادة لمدة شهرين، ركزنا فيهم على إنهاء المنهج، أنهينا منهج كامل خلال شهرين، رغم كل شيء.. شهران فقط لإنهاء منهج يحتاج عامًا كاملًا، شهران وسط الحرب، وسط النزوح والجوع والخوف، وهذا يدلل على حجم الجهد الاستثنائي، والإصرار الذي لا يُشبه إلا إرادة شعب اعتاد النهوض بعد كل سقوط".
انهيار المنظومة التعليمية في غزة
العائلة.. السند الأول
وسط هذه المأساة، وقفت عائلة نسمة كحائط صد يحميها من الانهيار، حيث تقول والعاطفة تملأ صوتها: "أهلي كانوا معي بكل خطوة، كانوا يشجعوني، ويدعوا لي، ويقتطعون من حصصهم كي يأكلوني، أمي كانت تشتري لي بأغلى الأسعار حتى لو كانت حبة تفاح".
لم تكن العائلة تملك الكثير، لكن ما تملكه أكبر من الطعام والموارد، كانت تملك الإيمان بقدرات ابنتهم، فوالدتها، رغم إصابتها خلال الحرب، كانت تحاول أن توفر لها ما يساعدها على الاستمرار، أهلها كانوا مستعدين للتضحية بحصصهم من الطعام كي تستطيع إكمال دراستها وسط المجاعة التي ضربت غزة بقسوة.
خسائر 733 يوما من الحرب الإسرائيلية على غزة
التفوق ليس صدفة.. مسيرة طويلة من الاجتهاد
النجاح الذي حققته "نسمة" لم يكن مفاجئًا، فمنذ سنوات، كانت من المتفوقات دائمًا، وهو ما تكشف عنه :"معدلاتي منذ بدايات سنوات تعليمي 99.8 و99.9%، وفي إحدى الأعوام الدراسية حصلت على 100%، فكنت متوقعة الحصول على معدل مرتفع، لكن الظروف كانت صعبة وخفت ألا أحقق حلمي، لكن الحمد لله ربنا أكرمني بأكثر مما توقعته"، وهذه الكلمات تُظهر وعيًا وعمقًا في فهم معنى النجاح، فهو ليس نتيجة لحظة، بل تراكم أعوام من الاجتهاد والانضباط والحلم.
فقدٌ ثقيل… وألم لا يحكى
ليست الحرب فقط ما واجهته نسمة، بل فقدت خلالها أشخاصًا تحبهم قائلة: "فقدت أولاد أختي، وزوج أختي، وبنت عمتي، وأصدقاء كثيرون، أمي أصيبت وأناس كثيرون من أحبابنا راحلوا"، هذه الكلمات التي تقولها الطالبة المتفوقة ليست خسارات بسيطة، بل جروح عميقة في روح فتاة في عمر الورد.
ورغم ذلك تعلق على استشهاد أفراد العائلة وإصابة الأم: "كانوا مصدر إلهام لي أنه لابد أن نكمل الطريق، ولابد أن تصل الرسالة"، فنسمة النبيه لم تسمح لهذا الألم أن يكسرها، بل جعلته وقودًا للاستمرار.
بيوت تهدمت.. وأسرة تفرقت
تعيش نسمة في حي الشجاعية، أحد أكثر الأحياء تضررًا في الحر، حيث تتحدث عن هذا الأمر وتضرر بيت العائلة والذي تنشر صورة لها وهي تحتفل بتفوقها داخله ويبدوا فيه وجود انهيارات كبيرة: "بيتنا شبه مدمر، والمربع الذي حولنا كله مدمر، نزحنا عشرات المرات، وتشتت عائلتى وكل واحد كان في مكان مختلف بالقطاع".
حالة التشتت التي تعرضت لها عائلة "نسمة" جعلتهم يضطرون إلى النزوح إلى مجمع الشفاء الطبي، وهو مكان لم يكن يصلح للعيش، لكنه كان الملاذ الوحيد، ووسط كل هذا، حاولت الطالبة الفلسطينية أن تبقى صامدة، وأن تبقي التعليم هدفها الأول.
ضحايا الحرب في غزة
المجاعة.. الامتحان الأصعب
من المشاهد الأكثر ألمًا التي ترويها هو الجوع، حيث تقول: "المجاعة كانت صعبة كثيرا، أهلي كانوا يعطوني من حصصهم كي استطيع استكمال المذاكرة"، هذه العبارة تكشف أن العائلة كانت تدرك أن تعليم نسمة ليس حلمًا شخصيًا لها، بل حلم لعائلة كاملة تشعر أن ابنتها تحمل أملاً أكبر من الظروف.
جرائم الاحتلال على غزة
أصعب اللحظات.. الحنين لمن رحلوا
عندما تٌسأل نسمة عن أصعب ما مرت به، تتوقف قليلا وكأن الكلمات تختنق في داخلها، ثم تقول: "أصعب اللحظات هي التي تمنيت فيها أحتضن أحبائي الذين راحلوا، تمنيت جلسة عائلية واحدة فقط قبل الوداع"، والوجع لا يوصف، لكنه حاضر في صوتها، في ذاكرتها، وفي إصرارها على المضيّ قدمًا رغم كل شيء.
مرض وانتشار للأوبئة.. لكنها لم تتوقف
الحرب لم توقف المدارس فحسب، بل جلبت معها الأمراض، وهو ما تطرق له خلال حديثها :"انتشرت الأمراض كثيرا، واصيبت بالصفار، وهو التهاب الكبد الوبائي لكن لم أتوقف، وأكملت مشواري في الدراسة والحمد لله شُفيت من المرض".
مرض في وسط المجاعة، في وسط النزوح، وسط الحرب، كان كافيًا ليجعل أي إنسان يتوقف إلا نسمة التي هزم حلمها هذا المرض، ولم يوقف مشوارها الدراسي بل كان دافعا لها لاستكمال التفوق وإسعاد العائلة.
أحلام تكبر رغم الدمار
وسط هذه الحرب، لم ينطفئ حلم "نسمة" التي توضح :" "أتمنى أن أساعد الفئات المهمشة، الناس الذين لا أحد يسمع صوتهم، أتمنى دراسة تخصص يساعد الناس وإن شاء الله يكون طب"، كلماتها تؤكد أنها تحمل حلمًا أكبر من ذاتها، حلما يعكس وعيًا مبكرا بأهمية دورها في مجتمع يحتاج إلى كل يد وكل عقل وكل قلب.
رسالة من قلب غزة للعالم
في نهاية حديثها، تقول:"نحن لسنا أرقاما، نحن أناس نحب التعليم ونحب نعيش حياة آمنة مثل كل العالم"، هذه الجملة تلخص كل شيء، تلخص الحرب، الألم، الفقد، النزوح، المجاعة، المرض، كما تلخص في الوقت نفسه الأمل، والإصرار، والإرادة التي لا تُكسر.
نسمة ليست فردا بل رمزا لجيل كامل
حكاية نسمة النبيه ليست حكاية طالبة متفوقة فحسب، بل هي مرآة لواقع مئات الآلاف من الطلاب في غزة الذين يحاولون صناعة مستقبلهم وسط الركام، قصة جيل يتحدى الحرب بالعلم، ويتحدى الموت بالأمل، ويتحدى الظلام بنور المعرفة.
نجاح نسمة ليس رقما في شهادة، بل صرخة حياة خرجت من قلب مدينة أنهكتها الحرب لكنها لم تنكسر، هو رسالة بأن غزة - رغم كل شيء - ما زالت قادرة على أن تخرج للعالم نماذج مضيئة تؤمن بأن المستقبل يستحق التضحية، وإذا كان العالم قد اعتاد النظر إلى القطاع من زاوية القصف والدمار، فإن ابنة إياد النبيه جاءت لتقول "هنا، وسط هذا الظلام، يولد الضوء، وفي قلب الحرب، يُخلق التفوق".