أحمد إبراهيم الشريف

فيلم طارد الأرواح الشريرة.. هل يدفع الشيطان ثمن أخطائنا؟

السبت، 06 ديسمبر 2025 10:04 ص


شاهدت مؤخرًا فيلم The Pope’s Exorcist (البابا طارد الأرواح الشريرة) للنجم راسل كرو، إنتاج 2023،  وقد انشغل الفيلم على نحو مثير بقضية طرد الأرواح الشريرة وما يمكن أن تفعله الشياطين حين تستحوذ على أرواح البشر، لكن ما لفت انتباهي أثناء المشاهدة لم يكن مرتبطًا بالرعب أو المؤثرات أو لقطات الكاهن فى مواجهة قوى الظلام، بل بتلك الفكرة الأخطر التى مررها الفيلم بهدوء: أن الشر العظيم فى التاريخ قد لا يكون من فعل الإنسان، بل من فعل الشيطان، فمحاكم التفتيش، إحدى أكثر الصفحات دموية فى تاريخ أوروبا، كانت نتيجة مس روحانى طارئ، وليست نتاج قرارات بشرية ومؤسسات سياسية ودينية تحركت بوعى كامل.

وسط هذا البناء الافتراضى للشر، يقدم الفيلم قصته عبر شخصية الراهب الإيطالى جابرييلى أمورث، الذى يجسده راسل كرو بثقة  ويجمع بين  قوة الشخصية والسخرية معًا، معلنًا منذ البداية أنه "الرجل الرسمى المعتمد من الفاتيكان لطرد الأرواح الشريرة"، هذا التفصيل ليس خيالًا كاملًا، لأن "أمورث" شخصية حقيقية بالفعل، وكان يشغل منصب Chief Exorcist  فى الفاتيكان لسنوات، وتنسب إليه  آلاف جلسات طرد الأرواح قبل وفاته فى 16 سبتمبر 2016.

تبدأ حكاية الفيلم حين يستدعى "أمورث" لإنقاذ طفل استحوذ عليه شيطان عنيف، لكن الأحداث سرعان ما تنفتح على فكرة أعمق، إذ يكشف الفيلم  أن الشيطان الذى يواجهه أمورث الآن كان ذاته روحًا تلبست فى القرن الخامس عشر قسًا مرتبطًا بالبلاط الإسباني، وأن هذا التلبس كان الشرارة الأولى التى أطلقت محاكم التفتيش الإسبانية، وهنا تتضح براعة الحبكة وخطورتها فى آن واحد، فهى تضع مسؤولية التاريخ على كتف الشيطان، لا على كتف الإنسان.

هذا التحويل ليس مجرد لعبة سينمائية، بل إعادة توزيع للمسؤولية، بدلاً من أن ننظر إلى التاريخ بوصفه نتاج إرادة بشرية (مؤسسات حكمت وقررت وعاقبت) فها نحن نُستدرج إلى محاولة تبرئة الإنسان، وتحميل الشيطان وحده عبء الدم، إن الفيلم يقول لنا "لم نكن قساة، بل مستنا قوى لا نملك لها دفعًا"، وهنا يبدأ الخوف الحقيقي، ليس من الشيطان داخل الشاشة، بل من الإنسان الذى يتهرب من خطئه خارجها.

إن محاكم التفتيش، بحسب الباحثين والمؤرخين، لم تكن حادثة عابرة ولا خطأ فرديًا، لقد كانت مؤسسة كاملة، أنشأتها الملكة إيزابيلا والملك فرديناند بدعم مباشر من البابوية، وأدارتها محاكم كنسية مدعومة بالقوة السياسية والعسكرية، كانت جزءًا من بنية حكم وهيمنة عقائدية، وليست تجليًا لزلة رجل واحد، ومع ذلك، يصر الفيلم على تحويل التاريخ إلى رواية أسطورية، قس ممسوس قاد أوروبا إلى الدم، إنها رواية مغرية دراميًا، سهلة التلقي، متماسكة بصريًا، لكنها خطيرة فكريًا، فهى تجعل الشر "طبيعة من خارج الإنسان"، لا فعلاً ناتجًا عن فكرة أو نفوذ أو سلطة، يصبح الماضى، بمجرد مشهد سينمائى صفحة يعاد رسمها بعيدًا عن الضحايا الحقيقيين، الذين لم تعذبهم شياطين، بل عذبهم بشر مثلهم.

السينما لا تنقل الحقيقة دائماً، يمكنها أن تقرب المشاهد من الفكرة لكنها حين تقترب من وقائع مثل محاكم التفتيش يجب أن تكون أكثر مسؤولية، الفيلم لا يقدم قراءة تاريخية، بل حبكة قصصية تستخدم الماضى كخلفية روحية، لا يستند إلى وثيقة موثقة، بل إلى بناء درامى يربط ملفات طرد الأرواح فى القرن العشرين بتاريخ أوروبى يعود للقرن الخامس عشر.
يصبح التاريخ فى الفيلم كائنًا سهل التطويع، يكفى أن نضيف له شيطانًا ليبدو معقولًا، لكن التاريخ الحقيقى أعقد، لقد كان صناعة بشر وصراع قوى وقرارات سياسية ومحاكمات سرية وتعذيبًا واستتابة وتحويلًا للآخر المختلف إلى كائن يجب إلغاؤه، من السهل رمى كل هذا فى ملعب "الروح الشريرة"، لكن الأصعب مواجهة أن الظلم صنع هنا، على يد بشر، لا فى أروقة الجحيم.
المشكلة الكبرى لا تكمن فى "الخيال"، بل فى "الإيهام بالواقعية"، فالفيلم كما قلنا من قبل يعلن أنه مستوحى من مذكرات الأب أمورث (طارد الشياطين يروي قصته) وكأن ذلك يمنحه شرعية ضمنية، المشاهد غير المتخصص قد يخرج مقتنعًا بأن محاكم التفتيش لم تكن قرارًا مؤسسيًا بل لعنة عابرة، وهذه النقطة هى الأكثر حساسية: عندما تقترب السينما من سجل دموى يجب ألا تحول الضحية إلى صدفة، ولا الجلاد إلى ممسوس، يجب ألا نسمح للذاكرة أن تُغسل هكذا.
إن سؤالي ليس عن الشيطان الذى واجهه أمورث، بل عن الإنسان الذى يرفض الاعتراف بقدرته على إنتاج الشر، الشيطان فى الفيلم خصم سينمائي، أما الشر الحقيقى فهو التهرب من المسؤولية التاريخية، وهذا النوع من الأفلام يذكرنا أن معركة الوعى ليست فقط مع النصوص التى تُكتب، بل مع النصوص التى تُعاد كتابتها.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب