هناك حالة من النقاش تفرضها الانتخابات الدائرة، يفترض استثمارها ومناقشتها وطرحها فى الإعلام، لأنها تتعلق بالحاضر والمستقبل، وتطرح أسئلة مهمة حول نظام الانتخابات وموقف الأحزاب والأوزان النسبية للمرشحين والفائزين، وتفرض أهمية العودة إلى مناقشات قريبة وتوصيات من الحوار الوطنى، وربما يكون هذا أولى مهام مجلس النواب الجديد حال اكتماله وإنجاز المراحل المقبلة للانتخابات والإعادات والمنافسات.
وكشفت الانتخابات عن أهمية أن تسعى الأحزاب القائمة بشكل عام إلى مغادرة أبراجها إلى الواقع، وتتعامل مع المواطنين بشكل عادى، ومن خلال برامج وخطط ومناقشات وأفكار، اعتمادا على عمل، وليس على البقاء فى الحضانات، وهذا الكلام للأحزاب الكبيرة والصغيرة، وهى أحجام نسبية، لأنه من الصعب القول إن هناك أحزابا كبيرة بالمعنى الحزبى، ولا تقدم القوائم المطلقة أى إجابة عن أحجام وقدرات الأحزاب التى تتساوى فى الواقع، وتختلف فى الإمكانات والقدرات.
والانتخابات تمثل مناسبة ليعرف كل حزب، وكل مرشح، وزنه الحقيقى، وقد كشفت عمليات إبطال الـ19 دائرة بقرار الهيئة الوطنية للانتخابات، عن فارق كبير، ففى مرحلة الانتخابات ظهرت فوارق كبيرة فى عدد الأصوات بدوائر البطلان، منها أن مرشحا كان حاصلا على آلاف الأصوات ومتقدما، وبعد البطلان والإعادة لم يحصل على أصوات، بينما المرشحة التى تذيلت القائمة حصلت على أصوات تؤهلها للإعادة، وهذا نموذج على الدوائر التى أبطلتها الهيئة الوطنية، والأمر ذاته فى الدوائر التى أبطلتها أحكام «الإدارية العليا»، لنكتشف أن من اعتادوا الفوز لا يحتفظون بأى شعبية، وأن الناخبين مهما كانت الإغراءات لا يخضعون لها، وهو أمر ينفى فكرة أن الناخبين يبيعون أصواتهم، خاصة الفقراء، بينما فى حالات كثيرة هم لا يصوتون لمن يدفع ما لم يتم استعمال ما يعرف بـ«البطاقة الدوارة» ونظن أن الإجراءات التى اتخذتها الهيئة والداخلية خارج اللجان تحد بشكل كبير وتحاصر عمليات شراء الأصوات.
والواقع أن الحديث عن المال فى الانتخابات لم يكن وليد هذه المرة، لكنه موجود فى الكثير من الانتخابات على مدى عقود، لكن حصاره يتطلب بالفعل إجراءات حاسمة، وأيضا يفترض أن تراقب الهيئة الوطنية للانتخابات عمليات الإنفاق لكل مرشح من خلال الشمول المالى واستعمال التكنولوجيا الحديثة، التى تتيح بالفعل الفلترة، بجانب أن هناك ضرورة لتغيير نظام الانتخابات بشكل يكون أكثر حداثة ويقطع طرق التلاعب التقليدية، التى بدأت مع الحزب الوطنى واستمرت لعقود، وهناك توصيات من الحوار الوطنى تتضمن اقتراحات متنوعة لشكل الانتخابات بالقوائم النسبية أو الفردى والقوائم، وبشكل يصنع منافسة وتكافؤ فرص، ويجب العلم أن ما كان يتم مع الحزب الوطنى لم يكن «طبخا أو معلمة» بل كان تلاعبا واحتكارا من حزب واحد لكل المقاعد بالمال والنفوذ، وقليلون من كانوا يفوزون بمجهودهم، وما جرى فى 2021 خير دليل، ولم يكن متاحا للمصريين عموما المنافسة والترشح.
نعود إلى هذه الانتخابات ونقول إن معارضين فازوا فى المرحلة الثانية وبعضهم يدخل الإعادة، ومستقلون يدخلون الإعادة مع أباطرة، بما يؤكد أن من كانوا يفوزون لا يستحقون، وأيضا بنفس القواعد فاز مرشحون من الأحزاب الكبيرة فى مقاعد فردية بالقواعد ذاتها، بعيدا عن القائمة التى لا تعتبر تمثيلا حقيقيا، وإنما تتطلب إعادة نظر، بحيث تكون الانتخابات منافسة حرة تتيح تكافؤ الفرص بين المرشحين وتضع أسقف للإنفاق والتدخل، وتبعد النفوذ والحصانات عن العملية الانتخابية، بما ينتج فى النهاية اختيار الأصلح والأكفأ والاقدر على التواجد ضمن مجلس نيابى، وهو ما أكد عليه الرئيس عبدالفتاح السيسى عندما دعا إلى مواجهة المخالفات، وعدم اختيار من يشترى الأصوات لأنه فاسد ولا يمكن أن يمثل الشعب، ويفترض أنه ينوب عن الشعب.
ونؤكد أن الجمهورية الجديدة تستحق ممثلين لها وحكومة ومجلس نواب على قدر المسؤولية والتحديات، وإلى أحزاب وحياة سياسية صحية، تخرج من الحضانات، لتملأ مكانها بالفعل وتستطيع حمل المسؤولية، وقد أثبت الشعب وعيا يجب أن تتعلم منه نخب السياسة والسلطة، كان تدخل الرئيس، مهما ويمثل تنبيها إلى خطوات أكثر حسما، وهو تدخل أنتج فارقا كبيرا، ودعم الأطراف التى تريد المنافسة، بل أنه منح المؤسسات المشرفة قوة، فى تحركها.
وقد شهدت بيانات لعدد من قيادات الأحزاب القريبة أو الصغيرة، وهى بيانات تكشف عن انفصال عن الواقع وغياب للإدراك، وبعض الأحزاب التى لا تكف عن الصراع الداخلى، تتحدث عن إنجازات بينما لا أحد يعرفها ولا حتى فى العمارات التى تقع فيها المقرات.
الشاهد أن هذه الانتخابات تفرض إعادة النظر باتجاه بناء حياة سياسية تناسب «الجمهورية الجديدة» تقوم على المنافسة والمحاسبة.
