دعوة لها صفة الاستدعاء. ويبدو أن ما وراءها لا يحتمل الإرجاء، ولا تتسع له مكالمة هاتفية عابرة. كتب ترامب عبر حسابه فى «تروث سوشيال» أن على إسرائيل مواصلة حوار قوى وحقيقى مع سوريا، ثم أردف باتصال مع نتنياهو استعرضا فيه المسألة ذاتها بالتأكيد، فضلا على مجريات اتفاق غزة، وما يخص ترتيبات الانتقال بين المراحل ونزع سلاح حماس، واختُتم كلامهما معا بالإشارة إلى زيارة مرتقبة للبيت الأبيض.
وإذا طار المدعوّ إلى واشنطن فى غضون الشهر الجارى؛ ستكون رحلته الخامسة خلال عشرة شهور تقريبًا، بمُعدّل واحدة كل شهرين؛ ومنها ثلاثة بنكهة الضبط والإحضار؛ حتى أن السيد الجمهورى استجلب تابعه الليكودى سابقا من المجر دون اتفاق أو ترتيب، وفاجأه وقتها بملامح الرؤية التى تبلورت لاحقا فى خطّة من واحد وعشرين بندا، تقلّصت إلى عشرين وأُعيد تحرير بعض نصوصها؛ قبل أن تُفضى إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى القطاع.
أُثيرت فى الاتصال أيضًا فكرة التطبيع مع الدول غير المعترفة بإسرائيل، بحسب البيان الصادر عن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، فيما أورد موقع «أكسيوس» الأمريكى أن الأخير طلب من مُحدّثه مزيدًا من المُساندة بشأن إسقاط قضايا فساده المفتوحة، بعدما تقدّم رسميا للرئيس إسحاق هيرتزوج بطلب العفو عنه؛ دون الاعتراف بالجُرم أو إبداء أية نيّة عن استعداده للتوصل إلى صفقة إقرار بالذنب.
كانت مُحادثة فى صُلب الأولويات من الجانبين: ترامب يُدافع عن تصوّره لإعادة هندسة الإقليم وتوازناته الجيوسياسية، فى مقابل تعريضها لمخاطر ملموسة وداهمة جرّاء سياسات الحُكم فى تل أبيب، ونتنياهو يُناور بالجبهة الشمالية؛ ليتحصّل على فائدته الكاملة جنوبا، مع دعم يُعزّز موقفه السياسى فى بيئة داخلية مُلتهبة، بما يُوجّه السلطة المعنية نحو إبراء ذمّته من الاتهامات الثابتة بحقّه، ويُحيد الأصدقاء والخصوم معًا؛ أكانوا من بنية الائتلاف المُتمردين عليه جزئيًّا، أم من المُعارضة الساعية إلى تطويقه بالقانون والدعاية، لإزاحته بكتفٍ خشن الآن، أو تعبيد الطريق إلى تنحيته بالصندوق لاحقا.
وبقدر ما لديه من مطامع فى الشام؛ فإنه يعرف مدى إقبال واشنطن على دمشق فى طبعتها الجديدة، واحتمالية اضطراره إزاء موقفها الإيجابى من حكومة الجولانى؛ لتعديل مقاربته الأمنية فى التعامل مع ما وراء الجولان، وربما ترشيد طموحاته عالية السقف بشأن قطع الجنوب عن الجسم السورى، أو فتح ممر فى لحمه إلى الشرق، للاتصال الوثيق مع الأكراد، وبناء تفاهمات مُعطّلة لعملية تشكيل تركيبة الحُكم المُتّفق عليها بين أطراف إقليمية ودولية عِدّة.
تراجع فى اليومين الآخرين عن تصلُّبه المُغلّف بالغموض، وقال إنه مهتم بإنجاز اتفاق مع السلطة السورية؛ شريطة أن تُقر بإنشاء منطقة منزوعة السلاح من دمشق إلى جبل الشيخ، مع العلم ببقاء التمركزات العسكرية الحالية للاحتلال فوق المُرتفعات، وفى المناطق التى توسّعت فيها وأضافتها إلى حيِّز سيطرتها الأمنية المباشرة بعد سقوط نظام الأسد.
ولا شك فى أنها آمال أعرض مما يتسع له صدر الجولانى ورُعاته، أو يقبله الشعب الذى يتسلّط عليه الغضب؛ لدرجة الاشتباك مع الجنود الصهاينة قبل أقل من أسبوع، رغم فارق العدّة والعديد؛ ليُستدرَج الطيران العدو لقصف بلدة «بيت جن» وإسقاط عشرات القتلى والجرحى، وهو ما كان سبب الغضبة الأمريكية الأخيرة.
والمُرجّح من مجموع المواقف والاستخلاصات؛ أنه ما اهتمّ بإخطار الحلفاء فى واشنطن بالضربة، ولا أفلح فى تسبيبها، أو تقديم مُبرّرات مُقنعة بحاجته إليها من الأساس. قال مبعوث ترامب إلى سوريا، توم برّاك؛ إنهم يخوضون حوارًا صعبًا ومُضنيا مع الطرفين منذ الجُمعة لاحتواء الأزمة، وما لم يُقَل أن رئيسه لا ينفتح على تلك المُغامرة المندفعة بأى قدر، ويُريد وضع الحالة السورية الراهنة فى حافظة أمريكية متينة؛ حتى لا تختل المُعادلات من دون قصد، ولا تتبدّد مفاعيل انتزاعها من المخلب الإيرانى.
والمُلفت؛ أن لبنان لم يرد ذكره فى بيان المحادثة الهاتفية، ولا ألمح إليه الرئيس الأمريكى فى تغريدته السابقة، أو عرّج عليه نتنياهو فى شروحاته التالية. ما يعنى ضمنيًّا أنه ساقط من حسابات النظر إلى الهندسة المُستجدّة لنقاط التماس شمالاً، وقد يقبل فيه ما لا يقبله مع جارته الشرقية. ولا دليل أكبر من أنه يتعرّض لتجاوزات تفوق مثيلتها فى سوريا، ومن دون تحفّظات على الإطلاق. بالضبط كما كانت الحال فى غزة؛ غير أن الأخيرة طرأت عليها حسابات خلال الشهرين الماضيين، لم تكن قائمة طوال سَنَتَى الحرب.
أُقرّ الاتفاق فى العاشر من أكتوبر، ودخل حيِّز الإنفاذ بعدها بثلاثة أيام. لم تتحدّد آجال واضحة للانتقال بين المراحل؛ إلا أن المفاتيح عُلِّقت ضمنيًّا على تبادل الرهائن، وأوشكت تلك المهمة على الاكتمال ببقاء جثمانين فقط، أحدهما لإسرائيلى يُحتمَل أنه جرى تسليمه قبل يومين. تتآكل الذريعة فى كفِّ «بيبى»؛ فيما يحتفظ فى الآخر بمسار احتيالى بديل، اشتغل على ترتيبه مع الجانب الأمريكى لعكس اتّجاه خطة البنود العشرين؛ أو بالأحرى تجميدها عند خطوتها الأولى.
وصفقة الكواليس المظلمة، تتحدّث عن إرجاء الانسحاب للوراء من الخط الأصفر إلى الأحمر، وبدء جهود إعادة الإعمار بالتزامن مع نشر قوة الاستقرار الدولية. محور الفكرة أن تُبنَى مجمعات سكنية فى مناطق سيطرة الاحتلال إلى الشرق من رفح، وإدخال الغزّيين فيها بإجراءات أمنية مُشددة، مع حظر الخروج، على أن تتمدّد التجربة تاليًا إلى خان يونس، ثم شمالا إلى محيط مدينة غزة. وبذلك؛ تُحصر حماس فى شريطها الساحلى الضيّق؛ فيسهُل تتبعها أوّلاً، ويتعذّر تمكين الإدارة المدنية المنصوص عليها فى الخطة.
يبدو الطرح مُتفائلاً للغاية؛ لأنه يتأسس على تصوّر بأن الوسطاء سيقبلون تجميد الجغرافيا والتلاعب فى الديموغرافيا، وفوق هذا سيُرحّبون بإرسال قوّاتهم لرعاية مُخطّط الهيمنة والبقاء على ما يُحب المُحتلّ ويرضى، وأن الرعاة والضامنين سيضخّون الأموال بكرمٍ وافر فى خزائن القتلة أو تحت إشرافهم. وكلها افتراضات تتنافى مع العقل المنطق، فضلا عن ثوابت الموقف المصرى، ومن يسيرون فى ركابه من بقية الضامنين والحاضنة العربية. والأهم أنها مُضادة لجوهر الخطة أصلاً؛ وإذا كانت «مؤسسة غزّة الإنسانية» أنهت أعمالها بموجب الاتفاق ورغبة المتشاركين فيه؛ فالأرجح أنهم لن يقبلوا استحداث أية صيغة أسوأ منها.
ستصطدم تلك المحاولات عاجلا أو آجلا بجدار صُلب؛ وسيُعيد الأمريكيون تعديل المقاربة، أو بدقة أكبر سيعودون بها إلى مسارها الابتدائى القويم، والمُتّفق عليه.
أُرجئ مؤتمر التعافى المُبكر وإعادة الإعمار عن موعده المُقرر بالقاهرة فى النصف الثانى من نوفمبر المنقضى، وقال وزير الخارجية أول من أمس فى برلين، إن مصر تسعى إلى انعقاده تحت رئاسة مُشتركة مع الولايات المُتّحدة. ما ينُمّ عن إرادة لتحويله إلى خطوة جادة ومُثمرة بشأن تدبير الاحتياجات المطلوبة، وأن تكون مُخرجاته مُلزمةً، أو تحت مظلّة الخطة الأمريكية بعناصرها المُحدّدة سلفًا.
وربما لا يغيب كل هذا عن نتنياهو، بخبرته الطويلة وعُمق إلمامه بالتحولات الحادة ما بعد الطوفان والعدوان؛ فكأنه يسعى إلى مُقايضة سوريا بالقطاع، وربما يُرخى له ترامب ستار الصفقة؛ إنما على أن تتزحزح إلى الغرب قليلاً، لتُختَزَل فى الفضاء اللبنانى الغائم.
يُلقى ذلك تبعات ثِقال على اللبنانيين، لجهة حسم التناقضات الداخلية، والالتحاق بقطار الترتيبات المُستحدثة على وجه السرعة. وإنزال حزب الله عن شجرة الأيديولوجيا والولائية المفرطة للخارج، وإنهاء رواسب الحرب الأهلية وانحرافات تطبيق الطائف، وغير ذلك من عِلَل خفيّة وظاهرة. إنما مع الوفاء بكل ذلك؛ ستظل الأسلاك موصولة بالطاولة التى يلتقى عليها نتنياهو وترامب، وكلما طال الزمن ستتقطّع مع بيروت، وتنعقد بغلظة أكبر فى واشنطن وتل أبيب.
وخلاصة الدراما كلها؛ أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يتلقّف الحوادث، ويقتفى أثر الخصوم. ليس قويًّا فى ذاته؛ إنما بإسناد تابعيه، وضعف مُناوئيه، واختلال الحسابات لدى الفرقاء على كل الجبهات المُضادّة. إذ لو أحسنت حماس التدبّر واتخاذ القرار؛ ما كان طوق النجاة الذى انتشله من وهدة الصراعات الداخلية تحت سقف مشروع الإصلاح القضائى، ولو أتقنت المُمانَعة منطق «وحدة الساحات» أو القطيعة معه؛ لمَا توصّل غريمها اللدود إلى كهفها الحصين، ووضع أصابعه على الغُدّة القاتلة فى جسم الشيعية المُسلّحة.
والمُفارقة؛ أنه على قدر ما يبدو متقدّمًا على المنافسين، ومتفوقًا على جبهات العداء كلها؛ فإنه الأضعف على الإطلاق ضمن مكونات الصورة العامة، إذا نظرنا إلى كل عنصر منها فى ذاته، وبمعزلٍ عن تداخل المسارات واشتباكها وتعقُّدها معًا.
سوريا هشّة لدرجة لا تقوى معها على الاصطدام به؛ لكنها محميّة باستحسان سيّد البيت الأبيض، وإقراره لبرنامجها الانتقالى على الرغم من ارتباكه العظيم وأخطائه الفادحة. لبنان مطعونة بالميليشيا؛ لكنها تستند إلى ذخيرة قانونية تُرجِّح موقفها على المُحتل، وحماس توشك أن تتداعى من تلقاء نفسها؛ ولو تخلّت عن تشدّدها لحرمته من مُتعة تنصيب الأوهام شواخص عالية والتصويب عليها بلا انقطاع.
حلفاؤه التوراتيون يبتزونه ويُعرّضون به. كان يستخدمهم بحسب الأحوال، وكانوا شوكة فى جنبه فى حالات عِدّة. المُعارضة من الوسط وبقيّة الطيف اليمينى تبدو مُتراجعة أمامه لو نُظِر لكلٍّ منها على حِدَة؛ لكنها فى المجموع تمتلك ما يؤهلها لاقتناص الحُكم منه فى أقرب موعد انتخابى.
ما يزال مُتّهمًا أمام القضاء بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، ويطلب العفو من رئيس بلا صلاحيات تقريبًا، ولا يحترمه فى قرارة نفسه، كما لا يحترم المؤسسات التى يُنفذ إرادته من خلالها، ويتصارع معها، ويُصوّب عليها بإغراق مُفرط؛ ولو ردّت عليه لأغرقته سياسيا وتنفيذيًّا، وأجهزت على ما تبقّى من سُمعة يجِدّ فى تبييضها، ومُهلة يُعلّق عليها آمال بناء أسطورته قبل موعد التقاعد.
مُتناقض إلى النخاع. فعندما تفجّرت قضاياه قبل خمس سنوات، وكان رئيسا للحكومة أيضًا، قال إنها لن تُؤثّر على مهامه، ولن تتداخل مع موقعه فى سدّة الحُكم. اليوم يدور على نفسه نصف دورة؛ ليدّعى أن المحاكم تنتزعه من غُرفة الحرب، وأن سلامة البلد ومصالحه الوجودية مُهدّدة بسيف إحقاق العدالة. هرب المُتّهم إلى السلطة من القانون، ويوظّف المنصب فى القضاء على مزاعم الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة عن نفسها؛ فيُقرّ من طرفٍ خفىّ بأنه فى بلد لا يستحق الاحترام، وبأنه يُقزّمه عامدًا؛ ليتيسّر له أن يضع نفسه فوق نظامه وأعرافه وكرامته واستقامة منظومته.
سيُستَدعَى إلى واشنطن مُجدّدًا؛ ليتلقى الأوامر والنوهى، ويُخطَر بالمسموح له والممنوع عنه. يُناطح القائلين بأنه سلّم بالوصاية الأمريكية؛ لكنه رحّب بتوجيهات ترامب لرئيس الدولة من منصة الكنيست بالعفو عن حاكمها المُدان بالفساد.
قدّم طلبه لهيرتزوج؛ ثم أدخله فى صُلب مكالمة هاتفية عن سياسات إسرائيل ومصالحها، طالبًا من الحليف الأكبر أن يُملى إرادته على الدولة الصغيرة. نتنياهو يُجرّد نفسه مُختارًا من كل ما ادّعاه طيلة مسيرته، ويُقرّ لخصومه بكل ما قالوه فيه وأصر على إنكاره، ويُقايض الخاص بالعام، بما لا يختلف عن نزعته الحربية المُتفجّرة طيلة العامين الفائتين؛ لا لشىء إلا أن يفلت من قضاياها المفتوحة، ومِمّا أُضيف لها من وقائع الفشل والإخفاق فى الطوفان، وإرث التخادُم والتنفيعات المُتبادَلة مع حماس.
صارت إسرائيل جمهورية موز؛ أو أدنى. سفّاح يسيل الدم من شِدقيه، والمال الأسود من جيوبه. يُبرم صفقاته بالهوى والمصلحة الخاصة، ويُفرّط راضيا فى صورة الملك اليهودى صاحب البائس؛ لأن الإملاء الأمريكى لا يترتّب هنا من موقع الأعلى على الأدنى بحسب أوزان الدولتين فحسب؛ لكنه ينطوى على منفعة تُبيّض وجهه القبيح، وتعده بتكييف النصر بما لا يُعرّيه تمامًا، ولا يتوانى عن سَتر انكشافه أمام بيئته فى أشياء أخرى لا تقل فداحة.
صعد على جثّة رابين؛ ثم استمر لثلاثة عقود يتلاعب بالجميع، وما زال. لكنه اليوم صار أقرب إلى عروسة ماريونت خيوطها مُعلّقة فى كفَّى ترامب، إن هزّهما تحرّك التابع، وإن نفضهما سقط أرضًا.
الطبل الأجوف أعلى صوتًا، ويُنظِّم الإيقاع؛ لكنه لا يصنع جوهر اللحن. كان سفّاحًا لحسابه طيلة السنوات الماضية؛ إنما الآن يمكن القول إنه صار مُجرّد أداة، وما بين غضبة واشنطن من ضربة فى سوريا، وطلب عفو على مكتب هيرتزوج، ورجاء لترامب أن يُزكّيه فوق القانون وكرامة البلد، يختتم مساره المُشين بما يليق به تمامًا؛ كأى لص مجنون بالعظمة، ومسجون فى لعنة الدم.