◄ سياسة خارجية نشطة تعزز الحضور المصري وتكرّس دورها الإقليمي الريادي كفاعل رئيسي في إدارة الأزمات وصياغة التوازنات
لم يكن عام 2025 عاما عابرا فى مسيرة السياسة الخارجية المصرية، بل كان عاما تفاقمت فيه الأزمات وتشابكت التحديات، ووجد فيه العالم نفسه أمام مرحلة حساسة تُعاد فيها صياغة موازين القوة وحدود النفوذ فى منطقتنا.. وفى هذا المشهد المعقد برز الدور المصرى بثباته وعمقه واتساع مساحاته، فاختارت القاهرة أن تكون، كما عُرفت دائما، قوة اتزان فى زمن الاستقطاب، وحلقة وصل تربط المحاور المتباعدة، وصوتا هادئا يوازن بين المصالح ويهتدى بمنطق الحكمة والإنصاف، وذلك تنفيذا لتوجيهات رئيس الجمهورية، بالانخراط الفعال وانتهاج سياسة خارجية نشطة، تعزز الحضور المصرى وتكرّس دور مصر الإقليمى الريادى كفاعل رئيسى فى إدارة الأزمات وصياغة التوازنات، والدفع نحو حلول سياسية تحفظ استقرار الإقليم وتخدم مصالح شعوبه.
من قلب هذه المقاربة، جاءت القضية الفلسطينية وفى مركزها الأزمة فى غزة، باعتبارها أحد أهم التحديات للدبلوماسية المصرية خلال العام، فمنذ اللحظة الأولى، قادت مصر جهدا دؤوبا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة وغيرها من الشركاء الدوليين والإقليميين، والذى أفضى إلى عقد قمة شرم الشيخ للسلام فى أكتوبر 2025، والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، ولم تكتف مصر بتثبيت وقف إطلاق النار، بل انطلقت مباشرة نحو التحضير للانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة الرئيس ترامب للسلام، والتى تتأسس على إطلاق عملية إعادة الإعمار، وتفعيل لجنة التكنوقراط الفلسطينية، ونشر قوة الاستقرار الدولية، وتوسيع مسارات التعافى الإنسانى والاقتصادى داخل القطاع.
وانطلاقا من مسؤوليتها التاريخية تجاه الشعب الفلسطينى، عملت مصر على ضمان استمرار فتح معبر رفح لتدفق المساعدات الإنسانية، ورفض أى مقاربات تلمّح إلى إخراج أو تهجير الفلسطينيين من أرضهم أو تغيير الواقع الديموغرافى للقطاع، مؤكدة أن بقاء الشعب الفلسطينى على أرضه خط أحمر لا يُسمح بالمساس به، كما تقود مصر حاليا مشاورات واسعة مع الشركاء الدوليين والإقليميين للتحضير لعملية إعادة الإعمار، فى إطار يتكامل مع قرار مجلس الأمن 2803 وما تضمنه من عناصر تتعلق بتثبيت وقف إطلاق النار وتدشين قوة الاستقرار الدولية. وهكذا برهنت مصر، مرة تلو الأخرى، أنها الحاضنة الأمينة للصوت الفلسطينى، والقناة التى تتقاطع عندها مصالح الأطراف، والقوة التى تمنع تمرير أى مقاربات تمسّ الحق الفلسطينى أو تفرض واقعا جديدا بالقوة.
بالتوازى مع جهودها المكثفة اتصالا بغزة، أولت الدبلوماسية المصرية اهتماما خاصا بالأزمتين فى السودان وليبيا باعتبارهما فى صميم الأمن القومى المصرى والعربى.. ففى السودان، انخرطت القاهرة فى اتصالات إقليمية ودولية متواصلة، وعلى رأسها الجهود التى تمت فى إطار الرباعية الدولية، دعما لكل جهد يهدف إلى إنهاء الحرب واستعادة الأمن والاستقرار، وسعيا منها للحفاظ على وحدة السودان وسيادته وسلامة مؤسساته الوطنية، بما يضمن عودة الدولة إلى مسارها الطبيعى ويخفف من معاناة الشعب السودانى الشقيق.. أما فى ليبيا، فقد تمسّك الموقف المصرى بثوابته المعهودة، وفى مقدمتها أن التسوية لا تكون إلا عبر حلّ سياسى «ليبى - ليبى» خالص، بعيدا عن أى إملاءات أو تدخلات خارجية، ودعم خارطة طريق سياسية شاملة، بما فى ذلك تشكيل حكومة جديدة موحدة تهيئ الظروف لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة فى أقرب وقت ممكن، مع التشديد على ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية والمقاتلين المرتزقة دون استثناء، واعتماد مقاربة شاملة تراعى الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية للأزمة، وبما يحفظ وحدة ليبيا وسيادتها ويحقق تطلعات شعبها فى الاستقرار والتنمية.
عطفا على ما تقدم، امتد هذا الدور ليشمل باقى بؤر التوتر فى محيطنا العربى، ففى سوريا، أكدّت مصر تمسكها بوحدة الدولة وسلامة أراضيها، واعتبار المسار السياسى بمشاركة جميع مكونات الشعب السورى الركيزة الأساسية لتحقيق استقرار مستدام، مع رفض الانتهاكات المتكررة للسيادة السورية والدعوة إلى احترام قرارات الشرعية الدولية.. وفى لبنان، حرصت القاهرة على الوقوف إلى جانب الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية، وعلى دعم وحدته وسيادته وأمنه واستقراره، والدعوة إلى التنفيذ الكامل للقرار 1701 ومنع انزلاق الأوضاع إلى دوائر تصعيد جديدة.. أما فى اليمن، فقد واصلت مصر دعم جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تُعيد للدولة وحدتها وتضع حدا لمعاناة الشعب اليمنى، فى إطار رؤية أشمل تربط بين إنهاء النزاعات وترسيخ الاستقرار فى الإقليم برمّته. وفى خضم هذه التوترات الإقليمية المتشابكة، برز التصعيد الإسرائيلى ضد إيران كعامل إضافى معقد فى مشهد الشرق الأوسط، حيث اضطلعت مصر بدور فاعل فى احتواء التوتر ومنع اتساع دائرة المواجهة، عبر اتصالات مكثفة مع أطراف الصراع وبالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أما اتصالا بالقارة الأفريقية، فقد شهدت العلاقات المصرية مع دول القارة خلال الفترة الماضية طفرة واضحة أكدت من جديد أن الدائرة الأفريقية ركيزة أصيلة للسياسة الخارجية المصرية، ولم تعد الروابط مقتصرة على الجانب السياسى، بل امتدت لتشمل المجالات الاقتصادية والتجارية والثقافية، فى إطار رؤية مصرية تستهدف دعم المسار التنموى، وقد تجسّد هذا التوجه فى سلسلة من التحركات والزيارات المكثفة، إذ قامت مصر بتنظيم 25 زيارة إلى الدول الأفريقية الشقيقة بمشاركة رجال الأعمال والمستثمرين، إلى جانب توظيف آليات فعّالة مثل آلية تمويل مشروعات دول حوض النيل الجنوبى، والوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، ومركز القاهرة الدولى لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام، والوكالة المصرية لضمان الصادرات والاستثمار، بما يعكس التزاما عمليا بتوسيع مجالات التعاون وتعزيز القدرات المؤسساتية والاقتصادية فى دول القارة.
وبالتوازى مع هذا الحراك التنموى، أولت مصر اهتماما خاصا بقضايا الأمن والاستقرار الإقليمى، وفى مقدمتها أمن البحر الأحمر باعتباره ممرا حيويا يرتبط مباشرة بمصالح دول القارة وأمنها القومى، كما حافظت القاهرة على موقف ثابت حيال قضية السد الإثيوبى، انطلاقا من كونها قضية وجودية تتطلب اتفاقا قانونيا ملزما يحقق مصالح جميع الأطراف دون الإضرار بحقوق مصر المائية، ومن خلال هذا النهج المتوازن الذى يجمع بين دعم التنمية وصون الأمن الإقليمى، تواصل مصر ترسيخ دورها كشريك مسؤول ومحورى داخل القارة الأفريقية.
وفى السياق الأوروبى، شهد عام 2025 نقلة نوعية فى مسار العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبى، تجسدت بوضوح خلال القمة المصرية الأوروبية الأولى التى عُقدت فى بروكسل فى 22 أكتوبر 2025، والتى جاءت تتويجا للإعلان عن الشراكة الاستراتيجية والشاملة فى مارس 2024، ولم تتوقف حركة الدبلوماسية المصرية عند هذا الحد، بل توازى معها ترفيع مستوى العلاقات مع كل من الدنمارك وإسبانيا وفرنسا واليونان إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، فى خطوة تعكس تقديرا أوروبيا متزايدا للدور المصرى كركيزة للاتزان الإقليمى، واعترافا بقدرة القاهرة على صياغة معادلات التعاون فى محيط يزداد حساسية وتعقيدا، وقد فتحت هذه الشراكات مساحات جديدة للتعاون فى مجالات الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، والأمن البحرى، وإدارة الهجرة، والاستثمار، ما يعزز موقع مصر باعتباره نقطة الارتكاز الرئيسية للعلاقات الأوروبية العربية فى شرق المتوسط والشرق الأوسط على حد سواء. إضافة إلى ذلك، أسفر إطلاق «ميثاق المتوسط» عن نشوء إطار جديد يتجاوز حدود الشراكة التقليدية نحو رؤية أوسع تقوم على التكامل الاقتصادى، وتعزيز أمن الطاقة، وضمان استقرار شرق المتوسط كمجال استراتيجى مشترك.
وفى المحافل متعددة الأطراف، سجلت الدبلوماسية المصرية حضورا مشرفاً تُوّج بفوز مصر بمنصب المدير العام لليونسكو، تأكيدا على ما تتمتع به من رصيد ثقافى وحضارى وإنسانى، كما انتخبت لعضوية عدد من المنظمات الأخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر: مجلس المنظمة البحرية الدولية، مجلس منظمة الطيران المدنى الدولى، المجلس التنفيذى لمنظمة السياحة العالمية، ودعم ترشيح الجهاز المركزى للمحاسبات كمراجع خارجى لليونيدو، وهى كلها مواقع تعكس ثقة المجتمع الدولى فى الدور المصرى وقدرته على الإسهام فى صياغة السياسات العالمية، بالإضافة لذلك استضافت القاهرة فى أبريل 2025 الاجتماع الوزارى الثانى لـ«عملية الخرطوم»، المعنية بتعزيز التنسيق والتشاور السياسى حول الهجرة من شرق أفريقيا إلى دول الاتحاد الأوروبى، وقد نجح الاجتماع فى اعتماد «إعلان القاهرة الوزارى» و«خطة عمل القاهرة»، كأول وثيقة استراتيجية تحدد الإطار العام لتحركات الرئاسات المقبلة فى هذا الملف.
وهكذا، ومع إغلاق صفحات هذا العام، تبدو الدبلوماسية المصرية وقد واصلت تثبيت حضور الدولة فى دوائر الفعل والتأثير، متحركة بثبات بين إدارة الأزمات وبناء الشراكات، وبين حماية الأمن القومى وتعزيز الانفتاح الإقليمى والدولى، وفى عالم تتسارع فيه الأحداث، يظل صوت مصر الشريف سيفا مسلطا على دعاة الشقاق، وبردا وسلاما على محبى السلام.
