يعرف القاصي والداني أن أم كلثوم خالدة في الوجدان، لا بوصفها صوتًا عظيمًا فقط، بل باعتبارها ظاهرة إنسانية وثقافية تجاوزت حدود الغناء إلى تشكيل الوعي الجمعي، وحين نسمع صوتها ونستعيد ذكراها فإننا لا نستعيد تاريخًا فنيًا فحسب، بل نلتفت، دون وعي، إلى دلالة اليوم ذاته، نهاية عام وبداية آخر، كأن صوتها يأتي دائمًا عند العتبات، ليغلق بابًا ويفتح آخر، ويمنح الناس وهم يعبرون الزمن طمأنينة البدء من جديد.
كانت أم كلثوم، منذ بداياتها، أكثر من مطربة، كانت صوتًا يستند إليه المتعبون، وملاذًا عاطفيًا للعاشقين، ورفيقًا يوميًا للناس في أفراحهم وأحزانهم، في بيوتهم ومقاهيهم وسهراتهم الطويلة، ومع الوقت، تحولت الموهبة الكبيرة إلى فنانة استثنائية، ثم إلى مبدعة خالدة، قبل أن تستقر في المخيلة الشعبية بوصفها "بطلة" والبطولة هنا لا تأتي من الأسطورة، بل من القرب، من القدرة على أن تكون جزءًا من تفاصيل الحياة.
كتب الناس تاريخ أم كلثوم بطريقتهم الخاصة، كتبوه بالاستماع المتكرر، وبالطقوس التي صاحبت حفلات الخميس، وبالانتظار الطويل لأغنية جديدة، وبالانفعال الجماعي الذي يوحد القلوب عند مقطع بعينه، ثم كتبوه في الحكايات التي تروى داخل البيوت، وفي الذكريات المرتبطة بصوتها (زفاف، فراق، نصر، أو حتى لحظة وحدة عابرة) هذا هو التاريخ الشعبي الذي لا يوجد كاملًا في الوثائق، لكنه محفوظ في الذاكرة.
وبالتوازي، جرى تثبيت هذا التاريخ في الكتب، وفي الدراما والسينما، وفي الدراسات النقدية التي حاولت تفسير الظاهرة، كيف صارت أم كلثوم نجمة، وكيف تحولت النجومية إلى سلطة رمزية، ثم إلى قيمة أخلاقية وجمالية. لكنها، رغم كل ذلك، ظلت أقرب إلى الناس من أي تحليل، وأقرب إلى الوجدان من أي توصيف أكاديمي.
كل واحد منا يملك في داخله سيرة حاصة لأم كلثوم، ويرى فيها بطلا بطريقة ما، فلم تكن أم كلثوم بالنسبة مجرد صوت، وحين نتأمل تجربتها نكتشف أننا أمام سيرة كاملة، لا تقل في بنائها وتعقيدها عن السير الشعبية الكبرى.
وكي نفهم هذه الصورة علينا التأكيد بأن البطل الشعبي في التصور العربي ليس معناه دائمًا الفارس الذي لا يقهر، ولا البطل الأسطوري، بل هو الإنسان الذي يعرف الألم ويجرب الفقد، ويتعلم الانتظار، وبهذا المعنى، يمكن قراءة أم كلثوم بوصفها تجسيدًا حيًا لفكرة البطولة الشعبية، لا لأنها تفوقت على الجميع، بل لأنها حققت ذاتها واستطاعت الهبور من الهامش إلى المركز في كل شيء، واستطاعت أن تبقى حتى الآن وستبقى في المستقبل.
إن سيرة أم كلثوم تشبه تمامًا صورة الأبطال الشعبيين على مر العصور، هؤلاء الذين يتحولون إلى رموز خالدة، يكفي أن تقول أم كلثوم، فينهال عليك سيل من المعاني.
وكي نفهم كيف تشكلت السيرة الكلثومية في أذهان الناس، لنا أن نتأمل سيرة صعودها، فلم يكن الأمر سهلًا، بل طريق صعب شاق، بلا قفزات سهلة، فقد خرجت من بيئة ريفية بسيطة، تحمل صوتًا جميلاً معبرًا وموهبة جبارة لكنها تحتاج إلى زمن كي تتشكل، واستعانت على ذلك بالمقاومة لأنها واجهت كما نعرف جميعًا جميع المعوقات المتخيلة وغير المتخيلة، هذا الصعود الصعب حقق في نفس الجماهير شيئًا معينًا، كأنهم قالوا هذه الفتاة الصغيرة في مقاومتها تشبه مقاومتنا للحياة، إنها من بيئة تشبه بيئتنا ولم تستسلم أبدا لما عانته، إنها نحن بصورة أخرى.
التيمة الثانية في سيرة أم كلثوم هي الصبر، وهو حجر الزاوية في السيرة الشعبية، الصبر يبدوا واضحا على صوت أم كلثوم وعلى هيئتها العامة، وفي أغنياتها أيضا، ولم يكن الصبر حالة سلبية، بل كان فعل مقاومة، انتظار الحبيب والفرج والعدل والغفران الإلهي، الصبر هنا ليس خضوعًا، بل إيمانًا بأن الزمن يمكن أن ينقلب لصالحك، لهذا بدا صوتها مألوفًا لناس عاشوا طويلاً على أمل مؤجل، ورأوا في الأغنية مساحة يتعلمون فيها كيف يصمدون.
ثم تأتي تيمة الكرامة، وهي من أكثر ما يميز البطلة الكلثومية، أم كلثوم نفسها (في الحكايات التي تروى عنها) وكذلك صورة المرأة في أغنياتها (وهي تغني لنا كأنها تروي سيرتها) تحب وتشتاق وتبكي، لكنها نادرًا ما تنكسر، حتى في أقسى لحظات الضعف، تظل الكرامة حاضرة، كأنها خط دفاع أخير لا يمكن المساس به، هذه الكرامة العاطفية تشبه كرامة البطل الشعبي الذي قد يُهزم على المستوى الجسدي لكنه يرفض أن يستسلم للهزيمة المعنوية أبدًا.
التيمة الرابعة هي الوعي بالذات، فأم كلثوم لم تكن مجرد منفذة لما يكتب لها، بل صاحبة مشروع واع بذاته، اختياراتها الشعرية والموسيقية، وتحكمها في صورتها العامة، كلها تشير إلى إدراك عميق لمكانتها ودورها، هذا الوعي هو ما يحول الفرد إلى رمز، والبطل الشعبي لا يصبح بطلًا إلا حين يعرف من هو، وما الذي يمثله.
وبالطبع لا يمكن تجاهل تيمة الانتظار، التي تشكل العمود الفقري لتجربة أم كلثوم، فالأغنية الطويلة ليست مجرد بنية موسيقية، بل تعبير عن ثقافة زمنية كاملة، الجمهور كان ينتظر الطرب كما ينتظر الخلاص، ويصبر على التكرار كما يصبر على الحياة نفسها، هنا تتحول الحفلة إلى طقس جماعي، يشبه حلقات السيرة الشعبية التي تروى على مهل.
القدرة على التغيير واحدة من التيمات المهمة في السيرة وهي حاضرة بقوة، فأم كلثوم لم تبق أسيرة شكل واحد أو زمن واحد، فقد تحولت لغويًا وموسيقيًا، وانتقلت من القصيدة الكلاسيكية إلى الأغنية الحديثة، ومن الأداء التقليدي إلى التعبير الدرامي المركب، دون أن تفقد هويتها، هذا التحول يعكس جوهر البطل الشعبي، الذي يتغير مع الزمن لكنه لا يتخلى عن أصله.
وفي السير الشعبية، غالبًا ما يصبح البطل أكبر من نفسه، ويتحول إلى رمز جمعي، وهذا ما حدث مع أم كلثوم، لم تعد مطربة، بل صارت صوتًا عامًا، وصورة للبلد في لحظات الفرح والانكسار، حين غنت للوطن، لم يكن ذلك أداءً وظيفيًا، بل امتدادًا طبيعيًا لدورها كبطلة خرجت من الناس وعادت إليهم محملة بمعانيهم.
ومن أهم تيمات السيرة الكلثومية تيمة المسؤولية، أم كلثوم كانت واعية بثقل صوتها وتأثيره، لم تتعامل مع الغناء بوصفه متعة شخصية، بل كرسالة، أو على الأقل كأمانة، هذه المسؤولية هي ما يجعل البطل الشعبي مختلفًا عن النجم العابر، فهو يعرف أن خطأه لا يخصه وحده.
ولنا هنا أن نعرف أن الخطأ جزء من السيرة، أم كلثوم لم تكن معصومة، دخلت في صراعات، وخاضت خلافات، واتخذت قرارات قابلة للنقد، لكنها حولت كل ذلك إلى خبرة، لا إلى سقوط، فالبطل الشعبي لا يطلب منه أن يكون كاملًا، بل أن يكون قادرًا على الاستمرار.
من هنا يمكن النظر إلى السيرة الكلثومية بوصفها إعادة كتابة حديثة لفكرة البطولة الشعبية، بطلتها امرأة، سلاحها الصوت، ومعركتها مع الزمن والذائقة والانتظار، سيرة علمتنا أن البطولة ليست في الانتصار الدائم، بل في القدرة على الوقوف بعد كل تعثر، ومواصلة الغناء، كأن الصوت نفسه فعل مقاومة.