نجاحات كبيرة حققتها الدبلوماسية المصرية، فى الآونة الأخيرة، ربما أبرزها الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، واستلهام رؤيتها فيما يتعلق بإعادة الإعمار، فى إطار الخطة التى أعلنها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، واستضافة قمة السلام فى شرم الشيخ بحضور قطاع كبير من زعماء العالم، لتصبح القاهرة هى الراعى الإقليمى الأبرز للقضية الفلسطينية، بينما لم يقتصر الدور المصرى على النطاق الإقليمى، فقد امتد واتسع، ليشمل العديد من الجبهات الأخرى، التى تجاوزت النطاق الجغرافى الضيق للمنطقة، نحو آفاق دولية أوسع، وهو ما يبدو فى العديد من المشاهد الدولية الأخرى.
والحديث عن طبيعة الدور الذى تلعبه القوى الإقليمية، فى السياق الدولى الحديث، لا يقتصر فى واقع الأمر على مجرد الدخول المباشر على خط الأزمات، وإنما يمتد نحو استلهام تجاربها ونهجها فى إدارة الأزمات، والذى يعتمد بالأساس على العمل الجماعى، من خلال العديد من المسارات، منها ما هو إقليمى، ويرتبط بالمنطقة الجغرافية مركز النزاع، ومنها ما هو جماعى، عبر العمل تحت المظلة الدولية، ليس فقط من خلال الأمم المتحدة والمنظمات ذات الصلة، وإنما أيضا عبر تدشين الشراكات الجماعية، وهو ما بدا فى نموذج غزة، والتى اعتمدت فى الأساس على شراكات إقليمية، أسفرت عن إجماع حول ثوابت الشرعية الدولية، ثم شراكات أوسع نطاقا، دفعت إلى انتصارات دبلوماسية غير مسبوقة لصالح القضية، وأبرزها سلسلة الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية.
النهج نفسه، يجد ملامحه فى محاولات إدارة الأزمة الأوكرانية، فعلى الصعيد الفردى نجد أن ثمة مبادرة أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى بضرورة وقف الحرب، فى 2022، بينما دعمت القاهرة أدوارا إقليمية أخرى، سعت للوصول إلى حلول، فى الوقت الذى عززت فيه الدولة المصرية شراكاتها مع أطراف الأزمة، سواء روسيا، أو الغرب الأوروبى، لتصبح حلقة وصل مهمة، من شأنها تهيئة البيئة لحوار دولى جاد يهدف بالأساس إلى تحويل الحالة الصراعية إلى شراكة تنافسية، تقوم فى الأساس على تعزيز المصالح المشتركة، ومن ثم الوصول إلى صيغة تفاوضية، بشأن القضايا العالقة.
الأمر لا يقتصر على هذا الإطار، وإنما يمتد نحو محاولات استلهام التجربة المصرية، فى إدارة الأزمات الإقليمية فى الآونة الأخيرة، وهو ما بدا فى بزوغ «تحالف الراغبين»، والذى يمثل خطوة أوروبية مهمة لخلق توافق قارى، غير مسبوق، كونه يمثل مواجهة ليس فقط مع الخصم «روسيا»، وإنما أيضا الشريك «الولايات المتحدة»، فى ضوء خلافات عميقة فى الكيفية التى يمكن من خلالها إنهاء الأزمة، خاصة مع التحفظات الغربية العميقة تجاه العديد من بنود الخطة التى أعدها البيت الأبيض، وأبرزها تنازل كييف عن الأراضى التى استحوذت عليها موسكو خلال الحرب، وحرمانها من الحق فى تقديم طلب للانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما تراه أوروبا الغربية تقليصا لسيادة أوكرانيا، وربما تهديد مستقبلى لها.
وفى الواقع، يمثل «تحالف الراغبين» الامتداد الأوروبى، ولو جزئيا، لمؤتمر بغداد، فى الشرق الأوسط، والذى تشكل كثمرة لشراكة ثلاثية بين مصر والعراق والأردن، ليجمع القوى الإقليمية المتصارعة على مائدة حوار واحدة، وهو ما يبدو أوروبيا، فى القيادة الفرنسية البريطانية، رغم خلافاتهما سواء على المستوى الثنائى أو حتى القارى على خلفية خروج لندن من أوروبا الموحدة، والهدف خلق حالة من الإجماع الأوروبى لدعم ما يراه الجانب الغربى من القارة حقا لأوكرانيا.
استلهام النهج المصرى، على النطاق الدولى الواسع، اتخذ صورا أخرى، أبرزها فى الكيفية التى تواجه فيها الدول، وخاصة فى الغرب، التهديدات الأمنية التى تلاحقها، وهو ما بدا فى الحرب التى تشنها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية معا على جماعات الإرهاب، عبر حظرها، وملاحقتها أمنيا، جنبا إلى جنب مع العمل على دحض أفكارها.
فلو نظرنا إلى النموذج الفرنسى، نجد أن الخطاب الذى تبناه الرئيس إيمانويل ماكرون ارتكز بوضوح على حماية مبادئ الجمهورية، وهو ما يمثل المركز الذى تدور حوله المعركة التى أطلقتها فرنسا، قبل سنوات قليلة، بينما تستلهمها دول أخرى فى الآونة الأخيرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التى تتخذ فى الفترة الحالية مبادرات غاية فى الأهمية بهدف تضييق الخناق على جماعة الإخوان وغيرها من جماعات الإرهاب.
الدور المصرى، سواء على المستوى الإقليمى أو الدولى، استمد عمقه من نزاهته، وقدرة الدولة على الوقوف على مسافة متساوية من كل أطراف المعادلة الدولية، بالإضافة إلى النجاحات التى حققتها فى إدارة أزمات إقليمها، خلال السنوات الأخيرة، ما أضفى قدرا كبيرا من الثقة العالمية، فى قدرة القاهرة على القيام بدور، خاصة مع تراجع القيادة الأحادية، وتعقد الأزمات والصراعات، وما أسفر عنه ذلك من حاجة ملحة لتنويع الأدوار وتعددية القوى الفاعلة.
