في الوقت الذي اتجهت أنظار العالم إلى مصر احتفاءً بافتتاح المتحف المصري الكبير، بوصفه أحد أعظم المشروعات الثقافية في القرن الحادي والعشرين، قررت وزارة الثقافة أن تفتح نافذة أوسع على المشهد الثقافي المصري، نافذة تقول إن الحكاية لا تنتهي، وأن مصر أكبر متحف ثقافي يمكن أن يشد الرحال إليه، من هنا جاءت مبادرة "فرحانين بالمتحف الكبير.. ولسه متاحف مصر كتير"، التي أطلقتها الوزارة برعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، كمشروع وطني واسع يسعي لأستعادة مكانة المتاحف المصرية بوصفها خزائن للذاكرة، وفضاءات حية للمعرفة، ومرايا تعكس هوية مصر المتعددة.
المبادرة أقيمت على مدار أسابيع
المبادرة، التي امتدت على مدار أسابيع، لم تكن احتفاءً موازيًا لحدث عالمي فحسب، بل كانت دعوة صريحة لإعادة اكتشاف مصر الأخرى؛ مصر التي تتجلى في بيوت الأدباء، ومرسم الفنانين، ووثائق الوطن وأغانيه، وملامح النضال، ومفردات الحياة اليومية التي صارت تاريخًا محفوظًا داخل المتاحف.
جاءت المبادرة في توقيت بالغ الدلالة، فمع الزخم الإعلامي العالمي المصاحب لافتتاح المتحف المصري الكبير، أرادت وزارة الثقافة أن تؤكد أن الحضارة المصرية هي حضارة ممتدة ومتجددة، صنعتها عقول المبدعين، وأصوات الشعراء، وريش الفنانين، ونضال الزعماء، وحكايات الناس البسطاء، عشرات المتاحف المتخصصة، المنتشرة من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الدلتا إلى الصعيد، تحمل هذا الامتداد وترويه بلغات متعددة: الفن، الأدب، الموسيقى، التاريخ، والتراث الشعبي.

جولة تفقدية ضمن مبادرة فرحانين بالمتحف الكبير
أهداف تتجاوز الزيارة
وضعت المبادرة مجموعة من الأهداف الثقافية والمجتمعية الواضحة، في مقدمتها تعزيز الهوية والانتماء عبر ربط الأجيال الجديدة بتاريخها الفكري والفني، وإعادة اكتشاف المتاحف التي قد تكون غائبة عن وعي كثيرين رغم قيمتها الاستثنائية، إلى جانب دمج الثقافة في الحياة اليومية بحيث تصبح زيارة المتحف ممارسة طبيعية لا حدثًا نادرًا. كما استهدفت المبادرة جذب شرائح جديدة من الجمهور، خصوصًا طلاب المدارس والجامعات، وهو ما انعكس في الإقبال الكبير لرحلات تعليمية قبل انشغال الطلاب بموسم الامتحانات.

زيارة لمتحف محمود خليل وحرمه
خريطة الكنوز.. وجولة في متاحف المبادرة
شهدت المتاحف التابعة لوزارة الثقافة، خلال فترة المبادرة، حراكًا لافتًا، تجسد في إقبال الزائرين، ورحلات المدارس والجامعات اليها وتنوعت المتاحف المشاركة لتقدم خريطة ثقافية شديدة الثراء بين المتاحف الفنية والقومية والنوعية، رغم الأعتراف بأن هذا التصنيف مجحف في كثير من الأحيان ، لأن الوصف الأدق أنها متاحف الوطن.
أولًا.. متاحف الفكر والعقول.. حيث يتجسد التاريخ برائحة الوطن
في متحف طه حسين بحي الهرم، لا يزور المتلقي مجرد متحف، بل يدخل إلي عالم عميد الأدب العربي، بين مكتبته ومقتنياته ومسيرته التي تحولت فيها المعاناة إلى مشروع تنويري. وعلى ضفاف النيل بالجيزة، يحتفظ متحف أحمد شوقي داخل «كرمة ابن هاني» بروح أمير الشعراء، منذ عودته من المنفى وحتى قصائده التي صنعت وجدان الأمة.
أما في قلب القاهرة التاريخية، فيقدّم متحف نجيب محفوظ داخل تكية محمد بك أبو الدهب تجربة سردية وبصرية لرحلة أديب نوبل، من حارات الجمالية إلى العالمية. ويأتي متحف دار الكتب والوثائق القومية بباب الخلق ككنز وطني بالغ الأهمية، يضم مخطوطات نادرة، ومصاحف نفيسة، ووثائق وبرديات وخرائط تحكي تاريخ الدولة المصرية إداريًا وثقافيًا عبر قرون.
ثانيًا.. متاحف الفن والإبداع.. حيث تتجسد الروح المصرية
يوثق متحف الفن المصري الحديث بدار الأوبرا مسيرة الحركة التشكيلية المصرية منذ عشرينيات القرن الماضي، عبر نحو 11 ألف عمل فني. ويجسد متحف محمود مختار بالدقي تجربة رائد النحت المصري الحديث، الذي مزج بين فرعونية الحجر وروح الثورة. بينما يحتضن متحف محمد محمود خليل وحرمه بالجيزة، داخل قصر أنيق يطل على النيل، واحدة من أندر مجموعات الفن العالمي في القرن التاسع عشر.
ويعد متحف راتب صديق صرحًا ثقافيًا متكاملًا وواجهة حضارية تعكس ثراء الحركة التشكيلية المصرية وتميزها على مدار أجيال.
وفي المقابل تحفظ أكاديمية الفنون تراث الفنون الشعبية داخل متحفها المتخصص، فيما يقدم مركز محمود سعيد للمتاحف بالإسكندرية نموذجًا لمجمع ثقافي حي، يضم عدة متاحف وقاعات وورش وفعاليات مستمرة.
كما يعد متحف الفن والحديقة من التجارب المتحفية الفريدة في مصر، إذ يأتي في صورة متحف مفتوح في الهواء الطلق، بلا جدران أو أسقف، يدمج بين الفن والطبيعة من خلال عرض مجموعة متميزة من الأعمال النحتية وسط المساحات الخضراء، في تجربة بصرية تتيح تفاعلًا مباشرًا بين العمل الفني والجمهور والمحيط الطبيعي.

زيارات ضمن مبادرة فرحانين بالمتحف الكبير
ثالثًا.. متاحف التاريخ والنضال.. ذاكرة لا تنسى
في القلعة، يروي متحف مصطفى كامل قصة زعيم وطني ونضاله من أجل الاستقلال، ويؤرخ متحف دنشواي لمحطة مفصلية في تاريخ الوعي الوطني عام 1906، بينما يخلد متحف المنصورة القومي (دار ابن لقمان) انتصار المصريين وأسر الملك لويس التاسع. وفي بورسعيد، يحفظ متحف النصر للفن الحديث أعمالًا فنية تجسد صمود المدينة وكرامتها.
رابعًا.. متاحف التخصص النادر.. عوالم مختلفة
تتجلى فرادة التجربة في متحف فن الزجاج والنحت والعجائن المصرية، الذي يروي قصة حب وإبداع بين الفنانين زكريا الخناني وعايدة عبد الكريم، عبر أكثر من ألف عمل فني. كما يقدّم متحف الخزف الإسلامي داخل قصر الأمير عمرو إبراهيم تحفة معمارية ومجموعة نادرة من الخزف الإسلامي، فيما يجمع متحف ومكتبة الفنون الجميلة بالإسكندرية بين العرض الفني والمعرفة المكتوبة، بما تضمه مكتبته من نحو 200 ألف كتاب.
خامسًا.. متاحف الموسيقى والغناء.. إيقاع الوطن
وفي جزيرة الروضة، فتح متحف أم كلثوم أبوابه على عالم "كوكب الشرق"، بمقتنياتها وأوسمتها وتاريخها الفني. وقدّم "متحف محمد عبد الوهاب" بمعهد الموسيقى العربية رحلة في حياة موسيقار الأجيال، بينما وثق "متحف الأوبرا المصرية" تاريخ دار الأوبرا من الخديوية إلى الحديثة، كما عرض متحف المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية بالزمالك مقتنيات نادرة لفناني مصر، يعود أقدمها إلى أكثر من 200 عام، بالإضافة إلى مستنسخات تُعرض كبدائل للأصول غير المتوفرة، مع الحرص على تمثيل مختلف الحقب الزمنية بمقتنيات تعكس فنون كل مرحلة.
المتحف يخرج إليك.. الثقافة في المترو والقطار السريع
ومن أبرز ملامح المبادرة خروجها من الجدران التقليدية إلى الشارع. تحولت عربات ومحطات مترو الأنفاق والقطار السريع إلى معارض ثقافية متنقلة، عُرضت فيها صور للمقتنيات ومعلومات مبسطة ورسائل تشجع على زيارة المتاحف. خطوة ذكية كسرت الحاجز النفسي بين الجمهور والمتحف، ورسخت فكرة أن الثقافة ليست ترفًا، بل رفيق يومي في طريق العمل والدراسة.
المتحف كفضاء حي
لم تقتصر المبادرة على الزيارات، بل صاحبتها ورش فنية للأطفال، وفعاليات احتفالية بمناسبات وطنية وعالمية مثل اليوم العالمي للغة العربية واليوم العالمي للإعاقة، إلى جانب ندوات وحوارات مباشرة حول الفن والأدب والتاريخ، ما حوّل المتاحف إلى منصات تفاعل حي لا قاعات صامتة.
فرصة للتطوير وبناء المستقبل
كما رتبت وزارة الثقافة أن يتضمن برنامج "تنمية مهارات مديري المواقع الثقافية" الذى تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة على مدار أسبوعين خلال الفترة من 20 ديسمبر 2025 حتى 1 يناير 2026، لتأهيل الكوادر الثقافية العاملة بالوزارة ورفع كفاءتها ويستهدف مديروا القصور والبيوت والمكتبات الثقافية العاملين بإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي، إلى جانب العاملين بثقافة الدقهلية، وعدد من مديري المواقع الثقافية بقطاع الفنون التشكيلية، زيارت لعدد من هذه المتاحف لتمثل فضاءات للتعاون والتواصل واقتراح زيارات جديدة في المستقبل.
الرحلة مستمرة
تؤكد مبادرة "فرحانين بالمتحف الكبير.. ولسه متاحف مصر كتير" أن الافتتاح العالمي للمتحف الكبير ليس محطة أخيرة، بل بوابة واسعة لإعادة اكتشاف مصر المتعددة، الغنية بخزائن تحفظ روحها وذاكرتها، رسالة المبادرة واضحة: المتاحف المصرية ليست مقابر للتحف، بل بيوت للذاكرة الحية، تنتظر زائرها لتبدأ معه رحلة في عمق الهوية.. إنها دعوة مفتوحة للجميع: ابدأ من المتحف الكبير، لكن لا تتوقف هناك… فحقًا، لسه متاحف مصر كتير.