يلعب نتنياهو فى القتال والحوار بطريقة واحدة. يُثبّت الأوضاع على ما يصل إليه، وبعدما يلتزم الطرف الآخر، يبدأ فى التقدم لفرض حقائق ميدانية جديدة، وتغيير ظروف الصدام أو التفاوض، بحيث يصبح الاختلاف على الجديد لا القديم.
وإذا كانت الحرب خدعة بطبعها، سائلةً وتقبل كل صور المناورة والاحتيال؛ فالسياسة تتطلب توافر الحد الأدنى من التوافقات التى لا يُعاد عنها، بل تُدَفّع للوصول بها إلى تسوية لا تُحمَل على النصر الخالص أو الهزيمة الكاملة لأى من الطرفين. لكن العجوز الماكر فى أقصى انتقالاته بين الحالات، يقتل بقفازات بدلا من يديه العاريتين، ويجلس إلى الطاولة بلباسه العسكرى.
وعندما توصل إلى اتفاق وقف الأعمال العدائية على الجبهة الشمالية، كانت الترتيبات تنص بعد ارتداع حزب الله على أن يشق طريقه باتجاه حصرية السلاح فى يد الدولة، وفى المقابل تنسحب إسرائيل من خمس نقاط تحتلها وراء نهر الليطانى.
ومن يومها سُجّل نحو 10 آلاف خرق من جانب الاحتلال، ومئات القتلى، ولم تتوقف الطلعات الجوية للرصد أو الهجوم. وما عاد الكلام على موجة تل أبيب يدور عن مساكنة بين البلدين بالمنطق القديم، وكما تردّها بيروت إلى اتفاقية الهدنة فى الناقورة بالعام 1949.
أُضيفت نقطتان إلى تمركزات الاحتلال، وبُنى جدار فى بعض المواضع، وبدأت تلوح فى الأفق تصورات عن تجريد الجنوب من البشر والحياة، أو أن تكون منطقة اقتصادية ذات طبيعة خاصة، مع العلم بأن ولاية قوات اليونيفيل الدولية تنتهى بختام العام المقبل، ولن تكون على المحتل رقابة ولو فى المستوى النظرى ومن زاوية الرصد والتوثيق.
تنطوى البنود الثلاثة عشر على نص يُجيز لكل طرف أن يُدافع عن نفسه؛ لكن معنى الدفاع يُشترط لتحققه أن يسبقه هجوم. وكان الحزب فى الواقع عاجزا عن الأخذ بزمام المبادرة، وغير راغب فى تجديد الاشتباك الذى أودى بقادته من الصف الأول، وأجهز على الجانب الأعظم من قدراته العسكرية ولوجستياته وخطوط إمداده، خصوصا بعد إطاحة نظام بشار الأسد فى سوريا، وقطع الطريق من طهران إلى الضاحية عبر دمشق.
وبدلا من الفعل جاءت الذريعة، وتأسست فى جانب على أن الميليشيا تتمسك بما تبقى لديها من سلاح، أو تعمل على ترميم هيكلها وتعزيز إمكاناتها المتداعية. وبعيدا من صحة الاتهام أو خطئه؛ فالتعاطى معه بالنار لا يقع فى نطاق الرد أو الدفاع، بل يُوصف حصرا بالهجوم الاستباقى الذى لا مبرر له عمليا، ولا يغطيه النص سالف الإشارة.
وبالبديهة؛ فإن نتنياهو سيطلب مقابلا عن وقف القصف والتعديات، أو سيُقدم تلك الترضية لقاء التزامات صعبة ومركبة على الدولة والحزب، لا أن تكون المقايضة بين تمكين الجيش اللبنانى وانسحاب الاحتلال الإسرائيلى.
وتتكرر اللعبة ذاتها فى غزة؛ ذلك أن خطة ترامب ببنودها العشرين تُورد تتابعا إجرائيا وتنفيذيا غير ما ينتهجه الجيش العبرى حاليا. فاتحة الصفقة أن يتوقف إطلاق النار ويتجمد الميدان مؤقتا، وبعد إنجاز عملية تبادل الأسرى والرهائن يأتى الانتقال للمرحلة الثانية، وهى موزعة على ثلاثة مسارات لا اثنين: تحل قوة الاستقرار الدولية، ويتراجع الصهاينة من الخط الأصفر إلى الأحمر، فيما تنتقل مهام الحُكم من حماس إلى إدارة انتقالية تكنوقراطية، وتضع الحركة سلاحها تحت الصيغة التى يُتَّفق عليها لاحقا.
وتُعالج الرؤية احتمال المماطلة من جانب الفصائل، بالنص على بدء الإعمار فى بقية المناطق لحين إدخال الجانب الغربى للقطاع تحت مظلة الاتفاق بأشراطه الكاملة. أى أن العلاقة صارت ثلاثية لا ثنائية، والخصمان يتصلان بالهيئة الانتقالية، لا ببعضهما مباشرة، أى أنهما ملتزمان أمامها، ولا يُسوّغ إخلال طرف منهما للآخر أن يتحلل من الالتزامات الواقعة على عاتقه.
المهلة التقنية بين المرحلتين كانت محددة بثلاثة أيام، وطالت إلى قرابة ثلاثين ضعفا تعليقا على أربع جثث باقية، ثم على جثة وحيدة حاليا.
وجوهر الأزمة أن نتنياهو لا يريد عبور البرزخ بين الحرب والتهدئة الدائمة؛ لأنه يُرتب عليه أعباء تتجاوز تثبيت وقف إطلاق النار إلى الانسحاب، ويسلبه ورقة التأجيج التى يحتاجها للاستثمار فى سردية الخطر الوجودى، والحاجة إلى نصر مُعمّد بالدم وتقطيع أوصال الخرائط وتوازناتها الجيوسياسية القديمة.
وفى سبيل ذلك يجب ألا يتخلّى عن خطوطه القائمة؛ بل أن يُحصنّها ولا يتوقف عن زحزحتها إلى الأمام. وفى المقابل؛ فلا أحد يُرحب بالاشتراك فى ترتيبات الانتقال ضمن تلك الصيغة المحرفة، ربما يجعل من قوة الاستقرار جدار حماية للاحتلال، ونائبا عنه فى مواصلة الاشتباك مع الفصائل وتمكينه بالسلم مما تعذر عليه فى الحرب.
ولهذا؛ مرت الأسابيع دون تقدم يُذكر، وما تشكل مجلس السلام، ولا أقدمت الدول على المساهمة فى القوات المقترحة؛ فضلا على الخلاف فى صفتها وطبيعتها ونطاق مهامها وآجالها الزمنية.
سُكبت الخطة فى قرار مجلس الأمن رقم 2803، ولم يوضَع تحت الفصل السابع. ومنطق النص انعكاس لخيال الولايات المتحدة، سواء فى خطة ترامب أو فى إعدادها لمشروع القرار، وهو أن تكون قوة الاستقرار جهة رقابة لا تنفيذ، أى أنها معنية بحفظ السلام وليس صناعته أو فرضه على المتحاربين.
ما يتطلب إلزام إسرائيل بالتدرج المنصوص عليه بشأن الانتشار وإعادة التموضع، بالتوازى مع إقناع حماس بوضع السلاح جانبا، أو تجاوزها إلى الحلول الجزئية المؤقتة بتأهيل المساحات المتاحة وإعادة إعمارها؛ إنما تحت المظلة الدولية التى تنوب عن الفلسطينيين مؤقتا، وتُمهّد الأرض لعودة السلطة الوطنية ومرجعية منظمة التحرير، بعدما تُوفّى بمتطلبات الهيكلة والإصلاح وتكون أوضاع القطاع قد استقرت فى الأمن والمعاش والإدارة اليومية.
أى أن حماس يمكن أن تكون شريكا فى المسار، أو على حافته مع باب مفتوح لولوجها طوال الوقت؛ لكن تل أبيب ليست طرفا فى المستقبل المخطط له على الإطلاق.
والولايات المتحدة نفسها لم تقل بغير الوارد فى الخطة، وحتى عندما سعت للتحايل على التعقيدات واصطناع تصور بديل عن برنامج الإعمار الموضوع على الطاولة، طُرح ما يُسمّى «مشروع شروق الشمس» من إعداد ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر غير مشمول بتأبيد وجود الاحتلال فى غزة.
صحيح أن البناء يبدأ من مناطق سيطرته؛ لكن الصياغة لا تُشير بالتصريح أو التلميح إلى كونها سيطرة دائمة، وعندما يسكت الفرع عن بعض التفاصيل يُعاد فيها إلى الأصل، أى الخطة التى تتدرج فى إخراجه على ثلاث حركات: من عموم القطاع إلى الخط الأصفر، ثم منه إلى الأحمر، وأخيرا إلى شريط عازل شديد الضيق عند إطاره الخارجى.
وما دون هذا التسلسل لن يقبله الغزيون والسلطة الشرعية، ولن يضمنه الوسطاء الضامنون، وأصعب من أنه لن يجد دولا تُرسل قواتها إلى المجهول؛ فلن يتصدّى أحد من الرعاة والممولين لعمارة ما خربه الصهاينة، أو مكافأتهم بتأهيل مدينة مُحتلة من قبل نشأتها، ويُراد توظيفها لتكون مفرزة للمدنيين وآلية للانتقاء والعزل من جملة ما يزيد على المليونين، وفق أهواء إسرائيل وقيودها الأمنية الضاغطة وشديدة البطش والعنصرية.
غير أن المفارقة ليست فى تمرد نتنياهو على السيناريو الأول فحسب؛ إنما أنه يبتكر بديلا أشد سوءا بما لا يقاس مع السيئ المرفوض نسبيا، أو المقبول على مضض. وما رددته الصحافة العبرية خلال الأيام الأخيرة، أنه يحمل معه إلى فلوريدا خطة مُعدّلة توسع نطاق سيطرته إلى نحو ثلاثة أرباع القطاع، من مستوى 53 % يقضمه حاليا.
وإذ يعرف أن الفكرة لن تجد قبولا من المختلفين معه، وقد لا يحتضنها الحليف الأمريكى نفسه؛ فغالب الظن أنه يُعكّر الماء، ويقترح منغصات من خارج الصندوق؛ ليُجبر الآخرين على البقاء داخله، ورؤيته فى وضعه الحالى على صورة الفرصة الذهبية، والحماية من بدائل أصعب وأشد خطورة وتهديدا.
موقف شبيه بقصة الحاخام والخنزير اليهودية الشهيرة، عندما ذهب فقير إلى رجل الدين شاكيا الظروف وسوء معيشته مع أسرة كبيرة العدد فى غرفة واحدة ضيقة؛ فنصحه المتبحر المحتال بأن يشترى خنزيرا ويُسكنه معه ويُقدم رعايته على كل شىء آخر، وعندما ساءت الأحوال بهياج الحيوان وقذارته، وبأن طعامه يتكلف كل دخله القليل ولا يُبقى شيئا للأسرة، كانت النصيحة الثانية بأن يتخلص منه على عجل، وعندها أشرقت الحياة وأحس باتساع مريح فى المكان والمعاش.
وكل الحكاية أن الناصح لم يتصدّ للمشكلة الأساسية من الأساس؛ بل اخترع واحدة أسوأ منها وعمل على حلها، وهو سهل بالنسبة له لأنه صانعها من البداية. وهكذا يفكر نتنياهو ويعمل.
يريد ترامب أن يُمرر خطته لآخرها، ويضيق بممارسات زعيم الليكود؛ لكنه يحبه ولن يتخلى عنه، ويصرف الجهود إلى ترويضه ومحاولة تطويعه بديلا عن الصدام معه أو التلويح له بعصاه الغليظة.
ولو كان بمقدوره إنفاذ رؤى حليفه الصغير بالكامل لفعل؛ لكن النزاع لم يعد مع الفلسطينيين حصرا، واشتبكت معه أطراف عدة بإرادتها أو رغما عنها، وبأثر تلك القوى تحركت تصورات سيد البيت الأبيض فى الزمن بأسرع مما تبدلت الوقائع على الأرض، فانصرف عن الريفييرا إلى ورقة ويتكوف أولا، ومن الانحياز لفكرة الحسم الخشن إلى التسوية الناعمة، وأعاد إنتاج مقترح مصر الذى اعتمدته القمة العربية الإسلامية لإعادة الإعمار، وضمّنها فى الخطة التى تحمل اسمه.
وما دفع بها فى صيغة مشروع أمام مجلس الأمن إلا استجابة للممانعة العربية وصلابة موقف الوسطاء الضامنين بالتحديد. وما يُرفَض اليوم لقدر ضئيل من التحريف، لن يُقبَل بأردأ منه حسب التلفيقة الجديدة اللى يحملها نتنياهو بين أوراقه فى الزيارة الأمريكية الخامسة.
يُعلّق العجوز الماكر غاياته المضمرة على الأعمدة الظاهرة. رفات الجندى وسلاح حماس وإعمار القطاع جزئيا تحت سيطرة الاحتلال، حتى تتثبّت الأوضاع المختلة ولا تتآكل ذريعة الحركة وفرص استثمارها لاحقا. إنما الأصل أنه لم يكن يريد إيقاف الحرب، ولا ارتضى الصفقة إلا اضطرارا، ويكره تدويل المنازعة هنا لأنها تغل يده عن غزة، وتبتدع سابقة لم تشهدها القضية منذ انفجارها فى النكبة الأولى، وقد تُغرى الفاعلين فى المنطقة والعالم بالسعى إلى تكرارها وتوسيع مداها إلى الضفة الغربية مستقبلا.
وهو لا يريد أن يواجه قوة دولية يصعب عليه توجييها، ويستحيل أن يبتدئ معها جولة حربية أو يضعها فى مرمى النار ويُطير قذائفه من فوق رؤوسها. يتمسك بحدوده الحالية ليُؤخر تشكيلها، ويطرح توسعتها بنسبة 50 % من وضعها القائم ليُبدد فرص التفكير فيها من الجذور، ويُصلّب مواقف حماس بشأن السلاح والمستقبل وتسوياتها مع الوسطاء والسلطة ومجلس السلام والغزيين أنفسهم.
وجماع كل ذلك أنه يتقصد الإرباك والتعطيل، وعينه على نسف خطة ترامب من أسسها العميقة قبل معمارها الظاهر، والأمريكيون يعرفون هذا، وتنبنى على ردود فعلهم ما يمكن أن تؤول إليه التسوية، وما يُمكن أن يُفرّطوا فيه من إرث رئيسهم أو يتشددون فى الدفاع عنه لصالحه.
ومع ضيق هامش العودة إلى الحرب، وصعوبة أن تحل القوات الدولية على خريطة سائلة وجراح تتسع ولا تندمل؛ سيظل نتنياهو يلاعب الجميع باللغة الخشبية والأفكار الجارحة؛ إلى أن تجد واشنطن أنه لا مفر من إحراق الغابة المصطنعة، وشق طريق فيها تقود إلى النقطة الأولى وتُثبّتها بالجبر والإملاء؛ أو عليها أن تحتمل دراما من خارج النصوص المعروفة أو المرغوبة، وبما يتضاد مع أولوياتها، بالمضمر منها وما ورد فى استراتيجيتها المحدثة للأمن القومى.