نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام.. ملاك حمدونة زهرة علم نمت بين الركام.. صاحبة الـ98.7 بالثانوية: أختى استشهدت بسبب الجوع وهذا جعل حلمى أكون طبيبة لإنقاذ الأرواح.. ودرست على ضوء شمعة والظلام كان أرحم من الحرب

الأربعاء، 03 ديسمبر 2025 10:30 م
نساء غزة.. صانعات الأمل وسط الركام.. ملاك حمدونة زهرة علم نمت بين الركام.. صاحبة الـ98.7 بالثانوية: أختى استشهدت بسبب الجوع وهذا جعل حلمى أكون طبيبة لإنقاذ الأرواح.. ودرست على ضوء شمعة والظلام كان أرحم من الحرب ملاك يوسف الطالبة المتفوقة

كتب أحمد عرفة تصميم جرافيك - أحمد جمال مرسي

 

  •  نزحنا 11 مرة وكل مرة كنت أبدأ جمع الكتب من الصفر

  •  كنت أذاكر وسط القصف بدون مدارس ولا إنترنت ولا أساتذة

  •  ليلة القصف كانت كأهوال يوم القيامة

  •  كنت أتعلم وحدى وكل صفحة كانت معركة ضد اليأس

  •  تخيل أن تذاكر وأنت جائع هذا لا يستوعبه العقل البشري

  •  عدت ولم أجد البيت لكن الإصرار ظل فى كما هو

  •  نجاحى رسالة للعالم أن غزة لا تُهزم

  •  نريد أن نعيش كبشر ونريد الأمان والحرية والعلم بلا خوف

 

 

 لا صوت يعلو فوق صوت القصف فى غزة، وحيث تتلاشى ملامح الحياة بين الركام والخيام، برزت قصة استثنائية تُشبه المعجزة فى تفاصيلها، بطلتها الطالبة الفلسطينية ملاك يوسف حمدونة، التى حصلت على مجموع 98.7% فى الفرع العلمى فى الثانوية العامة رغم عامين من الحرب والحصار والدمار.

 

دروس بلا مدارس.. ومناهج بين النزوح والأنقاض

قصة ملاك ليست مجرد تفوق دراسى، بل شهادة حية على أن الإرادة أقوى من الحرب، وأن صوت العلم يمكن أن يسمو فوق ضجيج الصواريخ، حيث تبدأ حديثها بصوت تختلط فيه القوة بالوجع قائلة:"أريد من جميع الناس أن يتخيلوا مشهد طالبة أمامها مواد علمية بحاجة إلى الفهم والدراسة والاطلاع على أسئلة ومصادر تعليمية كثيرة، ولكن من دون مدارس، من دون إنترنت، من دون أساتذة، ومن دون أى مصدر شرح".

 

 

ملاك يوسف
ملاك يوسف

 

وتضيف فى تصريحات خاصة لـ"اليوم السابع"، متحدثة عن تجربتها القاسية فى الدراسة :"كانت تجربة مليئة بالصعاب، أمامى كتب وأنا أعيش الإبادة، كان القصف فى كل مكان، عشرات الشهداء، إخلاءات مستمرة فى المناطق التى كنا فيها، فى البيت وفى الحارة، كانت تجربة جدًا صعبة، لا أتمناها لأى طالب".

 

إحدى عشرة رحلة نزوح.. والكتاب لا يفارق يدها

رغم كل ذلك، لم تستسلم ملاك، كانت تقاوم ظروف الحرب بكتابٍ مهترئ وهاتفٍ متقطع الاتصال، تجمع ما يمكنها من مصادر دراسية بشق الأنفس، حاولت أن تحصل على الكتب الدراسية أكثر من مرة، قائلة:"حاولت أجمع الكتب والمناهج الدراسية بعدة وسائل لم تكن سهلة على الإطلاق، أول مرة جمعتها وأنا فى منطقة التوام، وبعدها عندما نزحت مع أسرتى وفقدنا البيت فقدت الكتب أيضا، حيث نزحنا من التوام للشيخ رضوان، وهناك أيضا فقدت الكتب والدفاتر، وكنت كل مرة أحاول أبدأ من جديد".

 

انهيار المنظومة التعليمية في غزة

 

انهيار المنظومة التعليمية في غزة

 

رحلة النزوح التى عاشتها ملاك لم تكن مرة أو مرتين، بل 11 نزوحًا متكرّرًا خلال الحرب، من شمال غزة إلى وسطها وجنوبها، كل مرة بحثًا عن مأوى مؤقت من الموت، تتحدث عن النزوح الأول وكأنه جرح لا ينسى: "المرة الأولى كانت الأصعب، خرجنا من بيتنا فى شمال القطاع بسبب القصف الشديد والأحزمة النارية التى طالت كل المنازل فى محيطنا، كان أصعب نزوح وأصعب أيام فى حياتى، لا أريد تذكر تلك الليلة اللى استُهدف فيها منزل بجانب منزلنا فى دير البلح، كانت كأهوال يوم القيامة".

 

ليلة تشبه القيامة.. حين صار الحلم بين الأشلاء

تصف "ملاك" تلك اللحظة القاسية التى رأت فيها الموت بعينيها، قائلة :"الأشلاء تتطاير ونحن نيام، وأصيب العديد من أقاربى وأبناء عمى، كانت ليلة لا تُنسى، ما بدى حدا يعيشها ولا حتى أتذكرها أنا."

 

 

ضحايا العملية التعليمية في غزة

 

ضحايا العملية التعليمية في غزة

 

ضوء شمعة يبدد ظلام الحرب

ورغم كل هذا الرعب، لم تتوقف ملاك عن الحلم. كانت تدرس على ضوء شمعة، أو على ضوء هاتفها الصغير حين تتوفر الكهرباء لبضع دقائق، وفى الوقت الذي كان فيه كثير من الطلبة قد فقدوا الأمل، ظلت هى متمسكة بهدفها فى أن تُكمل دراستها وتنجح، لتُثبت أن الحياة ممكنة حتى وسط الرماد.

 

وأعلنت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، خلال بيان لها فى 13 نوفمبر، أن هناك 56 ألف طالب وطالبة فى غزة مؤهلون للالتحاق بالجامعات، حيث 30 ألف دورة 2007 و26 ألف دورة 2006.

 

تتحدث الطالبة المتفوقة عن محاولاتها استكمال دراستها خلال الحرب والنزوح: "التحقت آخر شهرين بدروس خصوصية في مادتي الفيزياء والرياضيات. كانت دروسًا وجاهية، حضرت بعضها، والبعض الآخر لم استطع بسبب النزوح المتكرر، أغلب الدراسة كانت ذاتية اعتمدت فيها على نفسى".

الطلاب الضحايا من الحرب على غزة
الطلاب الضحايا من الحرب على غزة

 

ورغم شح الموارد، كانت تعتمد الطالبة الفلسطينية على إرادتها كمصدر طاقة لا ينضب، تعلمت من تسجيلات صوتية قديمة، ومن أوراق متناثرة جمعتها من هنا وهناك، كانت تُذاكر وسط أصوات الانفجارات وصرخات الجيران، كل صفحة كانت معركة، وكل مسألة علمية كانت انتصارًا صغيرًا على الفوضى.

 

مجاعة تحصد الأرواح.. وأخت شهيدة تحيى الحلم

يظل أقسى ما مرت به لم يكن فقط الحرب أو النزوح، بل فقدان أختها زينة التي استشهدت أمام أعينها بسبب المجاعة وسوء الأوضاع الإنسانية، حيث تتحدث "ملاك" بصوتٍ يملؤه الحنين والحسرة:"أختي زينة استشهدت أمامنا بسبب الجوع، كانت حالتها تتدهور يومًا بعد يوم، على مدار 45 يومًا استطعنا توفير لها الغذاء والدواء اللازم، استشهدت بسبب المجاعة، وكانت مصدر إلهامي بأن أطمح أكون طبيبة في المستقبل، كي أساعد الناس وأمنع الألم عن غيرى".

جانب من ضحايا العملية التعليمية في غزة
جانب من ضحايا العملية التعليمية في غزة

 

انتشار الجوع

وفى 7 أبريل الماضى، سلط الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى خلال تقريره عن المجاعة التى ضربت القطاع خلال الحرب، موضحا أن انتشار سوء التغذية تسارع بصورة مخيفة ووصل إلى مستويات مدمرة فى غزة نظرا للمستويات الشديدة من انعدام الأمن الغذائى وتفشى الأمراض الناتجة عن العدوان الإسرائيلي.


وأضاف خلال تقريره، أن الاحتلال الإسرائيلى عمد إلى إغلاق كافة المعابر المؤدية للقطاع ومنع شاحنات المساعدات من الدخول وبالذات إلى محافظتى غزة وشمال القطاع.

 

ووفقا لدراسة أجرتها منظمة اليونيسيف تبين أن حوالى 31% من الأطفال دون عمر السنتين فى شمال غزة يعانون من سوء التغذية الحاد، كما أظهرت الدراسة أن حوالى 5% من الأطفال دون السنتين يعانون من الهزال الحاد فى شمال القطاع، وهو يعد أخطر أشكال سوء التغذية، حيث يضع الأطفال فى أعلى مخاطر العواقب الطبية والوفاة ما لم يتلقوا تغذية علاجية عاجلة، وقبل العدوان على قطاع غزة بلغت نسبة الهزال بين الأطفال دون السنتين 0.6% وفقا للمسح الفلسطينى العنقودى متعدد المؤشرات 2019-2020.

 

 

 

جرائم إسرائيل ضد التعليم

وتضيف الطالبة ملاك يبوسف والدموع تكاد تخنقها:"تخيل أنك تكون طالب توجيهى، أمامك كتب تحتاج للفهم والتركيز، وفى نفس الوقت تعيش مجاعة، هذا تناقض كبير لا يستوعبه العقل البشري."

 

 

جرائم الاحتلال ضد المدارس الفلسطينية

 

جرائم الاحتلال ضد المدارس الفلسطينية


وبحسب الإحصائيات التي نشرها المكتب الإعلامى الحكومى بغزة في 5 أكتوبر، فإن95%  من مدارس القطاع لحقت بها أضرارا مادية نتيجة القصف والإبادة، و90% من المبانى المدرسية تحتاج إلى إعادة بناء أو تأهيل رئيسى، وهناك 668 مبنى مدرسيا تعرض لقصف مباشر بواقع 80% من إجمالي المدارس.

الأضرار تلاحق المدارس والمباني التعليمية
الأضرار تلاحق المدارس والمباني التعليمية

 

وأشارت الإحصائيات، إلى أن هناك 165 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية دمرها الاحتلال كليا، و392 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية تضررت بشكل جزئى، وأكثر من 13500 طالب شهيد بسبب الحرب، وأكثر من 785 ألف طالب حرمتهم إسرائيل من التعليم، وأكثر من 830 معلم وكادر تربوى قتلتهم تل أبيب، بجانب استشهاد 193 عالما وأكاديميا وباحثا خلال العدوان.

 

 

 

ورغم هذا الفقد الموجع، وجدت ملاك فى حزنها دافعًا جديدًا للنجاح، أرادت أن تهدى روح أختها فرحةً مؤجلة، وتجعل من علمها انتقامًا نبيلًا من الحرب، قائلة:"هذا النجاح رغم الإبادة، رغم استشهاد أكثر من 100 ألف شخص، ورغم الجوع، هو نجاح باهر يستحق الفرح، الحمد لله أولًا، ثم الشكر لكل المعلمين والمعلمات الذين درسونى منذ الصف الأول، ولأبى وأمى الذين كانوا سندى رغم الظروف الصعبة، ولأخى عمر الذى يدرس الطب فى مصر، وأختى الكبيرة نورة التى دعمتنى دائمًا".

 

 

شهداء العملية التعليمية
شهداء العملية التعليمية

 

دراسة ذاتية وإصرار لا يُهزم
 

وتتابع ملاك حديثها عن الصمود خلال عامين من الحرب قائلة: "الصمود كان يعزز فينا الإصرار على النجاح، المثابرة والسعي للوصول، هل يمكن للعقل البشري أن يستوعب كمية الأطنان من الصواريخ والمتفجرات التى نزلت على غزة؟ كنا نعيش القصف، النزوح، الجوع، لكن هذا كله زاد فينا الإصرار على طلب الحرية، والرغبة فى أن نعيش بسلام كبقية طلاب العالم".

خسائر 733 يوما من الحرب الإسرائيلية على غزة
خسائر 733 يوما من الحرب الإسرائيلية على غزة

 

تتحدث عن عودتها بعد الحرب إلى مكان بيتها لتجده أصبح مجرد أطلالًا، قائلة: "من أصعب الأشياء أنك تعود وما تجد البيت الذى كان يأويك، تعود لتجد نفسك فى خيمة بدون أى مقومات حياة، كل شيء تغير، لكن الإصرار ظل هو نفسه."

من تحت الدمار تنهض الإرادة

وكشفت إحصائيات المكتب الإعلامى الحكومى بغزة فى 5 أكتوبر، أن هناك 268 ألف وحدة سكنية دمرها الاحتلال بشكل كلى، بينما هناك 148 وحدة سكنية دمرتها إسرائيل بشكل بليغ غير صالح للسكن، و153 متضررة بشكل جزئى، بينما هناك 288 أسرة فلسطينية بدون مأوى، وكذلك هناك 125 ألف خيمة اهترأت كليا وغير صالحة للإقامة من أصل 135 ألف خيمة.

 

وفى 13 نوفمبر، أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، أن القصف الإسرائيلى تسبب على مدار عامين فى تدمير أو تضرر أكثر من 282 ألف منزل فى غزة، ما ترك الناس بلا مأوى، موضحة أن عشرات آلاف العائلات الفلسطينية اضطرت إلى العيش فى خيام مع اقتراب فصل الشتاء، كما أن العائلات الفلسطينية تعيش فى مساحة ضيقة، وتعانى من غياب الخصوصية وصعوبة الوصول إلى الخدمات الأساسية.

 

 

جرائم الاحتلال على غزة

 

جرائم الاحتلال على غزة

 

 

ورغم المآسى المتكررة، كانت ملاك تزرع فى داخلها إيمانًا لا يهتز بأن ما بعد الليل فجر، وأن النجاح هو طريقها نحو التغيير، حيث تقول بابتسامةٍ يغلب عليها الأمل:"تركت فى هذه الحرب إصرارًا على النجاح رغم الأهوال، رغم الإبادة والقتل والتهجير والنزوح وفقد الأحبة، أنا مصرة لأكون رقما فى المستقبل، أكون طبيبة، وأوجه رسالة للعالم أن ينصروا فلسطين، أن يتبنوا مظلومية شعبنا الذى يعيش تحت الاحتلال منذ عشرات السنين، وأننا نستحق أن نعيش أحرارًا كباقى طلاب العالم".

 

وأكد أمجد الشوا رئيس شبكة المنظمات الأهلية فى غزة، أن الوضع الإنسانى بالقطاع لا يزال مأساويا، خاصة أن كثير من الأسر تعيش فى منازل مدمرة وفى هذا خطر كبير عليها، داعيا خلال بيان فى مطلع نوفمبر إلى الضغط على الاحتلال لإدخال لوازم الإيواء الشتوية، فى ظل أن نظام التسجيل الذى فرضته إسرائيل يعوق عمل المنظمات الإنسانية.

 

 

ضحايا التعليم في فلسطين

 

ضحايا التعليم في فلسطين

 

نجاح من رحم الإبادة
 

قصة ملاك يوسف حمدونة ليست مجرد قصة نجاح دراسي، بل شهادة إنسانية على قدرة الإنسان الفلسطيني على النهوض من تحت الركام، وعلى أن التعليم فى غزة لم يكن مجرد هدف، بل فعل مقاومة فى وجه محاولات الإبادة والنسيان.

 

لقد كتبت ملاك بعرقها وصبرها ملحمة الأمل وسط المجاعة، لتُخبر العالم أن أبناء غزة لا يعيشون فقط ليتنفسوا، بل ليحلموا، ويخططوا، وينجحوا، وليُثبتوا أن الحرب قد تقتل الجسد، لكنها لا تستطيع أن تقتل روح العلم والإرادة.

ضحايا الحرب في غزة
ضحايا الحرب في غزة

 

رسالة من غزة إلى العالم: نحن نحب الحياة

فى النهاية، تقول ملاك وكأنها تلخص وجع غزة كله: "نريد أن نعيش كبشر، نريد الأمان، نريد أن نحلم بحرية وأن ندرس بلا خوف، وأن نُسمع العالم أصواتنا، لا كضحايا، بل كأبناء الحياة الذين رغم كل شيء، ما زال فيهم أمل".




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب