حازم حسين

فارق المرحلة الثانية عن الأولى.. أسبوعان فى انتخابات النواب ودروس لسنوات مقبلة

الأربعاء، 03 ديسمبر 2025 10:00 ص


لا وجه للشبه بين نتائج انتخابات مجلس النواب فى مرحلتيها الأولى والثانية. كان الفارق واضحًا فى مُجريات عمل اللجان، وازداد وضوحًا فيما أعلنته الهيئة الوطنية للانتخابات فى مؤتمرها أمس.

فمن إلغاء تسع عشرة دائرة، إلى إبطال لجنتين فرعيتين فقط. ومن الحديث عن تجاوزات واسعة تمسّ غاية التوصل لحقيقة الإرادة الشعبية، إلى إشارة عابرة لوقائع لا تؤثر على نزاهة الاستحقاق.

فى الأرقام، قد لا تختلف الصورة العامة فى كثير من تفاصيلها. فازت القائمة الوحيدة باستيفائها شرط التحصّل على الحد الأدنى بواقع 5% من جُملة الأصوات الصحيحة، فيما تراوح عدد المقاعد الفردية المحسومة من الجولة الأولى، بين 42 فى المحافظات الأربع عشرة سابقا، و40 فى ثلاث عشرة محافظة حاليا.. وعليه، فعامل الافتراق الكبير بين الحالين فى الممارسة وحدها: أكانت إجرائية نظامية، أم سلوكًا فرديا.

ربما تفيد مُحاكاة النتائج اليوم وأمس، فى استكشاف تقاليد البيئة السياسية المُترسّخة عبر تراث طويل من القيم والأعراف الرسمية والشعبية. إذ إن التقارب الواضح فى الخلاصات العامة على مستوى الأرقام، قد يُشير إلى أن التجاوزات لا تُغيّر كثيرًا فى الحصيلة النهائية.

وربما يعود ذلك إلى أنها تُرتَكَب بالأساس تحت سقف العصبية والأُطر الحاكمة لاختيار المُمثّلين، ويغلُب عليها أن تكون من المُتقدّمين على غيرهم فى الحسابات العادية غير المُوجّهة، ما يعنى أنها عادة لا عبادة، أو بمعنى آخر من قبيل التوارث الثقافى والاجتماعى، بأكثر من كونها محاولة للعب فى التوازنات أو تغييرها بالكُليّة.

ما فات ليس حُكمًا عموميًّا بالتأكيد، إذ لا شكّ فى أن قليلاً أو كثيرًا من المُخالفات قد تُبدّل الترتيب، أو تُقدِّم المتأخِّر على سابقه، والعكس، إنما فيما أرى من واقع المُشاهدة الوقتية، والخبرة الشخصية الطويلة مع السباقات النيابية، يُمكن القول بلا افتئات إن تلك الحالات من عيّنة الاستثناء الذى يؤكد القاعدة.

لكنه فى الوقت نفسه، لا ينفى حاجتنا الماسّة إلى مُراجعة الثقافة السياسية وتحديثها، حتى يتحسّن الأداء العام وتستقر منظومة القِيَم، ولو لم ينعكس ذلك بالضرورة على الإفرازات النهائية لمُمثلى الشعب، أتحت معيار الكفاءة والجدارة، أم باستمرار سيادة نزعة التعصُّب عائليًّا أو جهويًّا.

ولا مفر من تجديد ما قِيل كثيرًا، واستفاض فيه الجميع. كان اشتباك الرئيس السيسى ببيانه السابق على إعلان نتائج المرحلة الأولى، حدًّا فاصلاً بين سياقين مُتغايرين تمامًا.

وبحسب تعبيره فى لقاء المُتقدّمين الجُدد للأكاديمية العسكرية قبل أيام، فقد أشهر «الفيتو» إزاء ممارسات غير مُرضية، ما كان بداية لنزع الغطاء عن أية أعمال تخص أصحابها، وتحفيز الهيئة وغيرها من الجهات على إمضاء حُكم القانون بجدية وحسم، ومن دون حرج أو مواءمات.

الجهات نفسها، والأحزاب والمرشحون أنفسهم، إنما المشهد غير المشهد. ما يؤشّر على أن المسألة ليست فى الضوابط والمعايير، ولا حتى لدى الأفراد، بقدر ما تُحدّدها مقادير الانضباط أوّلا، ومدى إعمال القانون والأُطر النظامية، وإشعار كل الأطراف بأن الانحراف لن يمرّ من دون كُلفة مباشرة، أدناها الفضح والتشهير، وأعلاها إلغاء النتائج وإعادة العملية إلى أقرب إجراء صريح، مع ما يترتّب على ذلك من أعباء على المُرشّحين أنفسهم، وتمكين الناخبين من تفعيل إرادتهم والتصدّى لمحاولات التلاعب بها.

ومع وافر الاحترام والتقدير للجميع، فالمؤكد أن مُرشحى المرحلة الثانية ليسوا ملائكة، كما أن سابقيهم بشر لا شياطين. وما ارتكبه المُخالفون هناك، وامتنع عنه المُلتزمون هُنا، إنما يُحال التحوّل فيه بين موقفين مُتضادين، إلى التدليل ببيّنة كاشفة على أن المُخالف لن يتربّح من مُخالفته، وقد يُفاجأ بعدما يُفرط فى الإنفاق أو محاولات الاحتيال على النظام والضوابط، بأنه مُضطرّ إلى خوض السباق مُجدّدًا من البداية، أو مُعرّض إلى إسقاط عضويته إن فاز، وربما يمتدّ الأمر إلى التورّط فى فِعل مُجرّم قانونًا.

عندما تساوت الاحتمالات بين الحالين، ترجّحت المنافسة البيضاء على نزوة التلاعب، إمّا استشعارًا لعدم جدوى إهدار المال، أو خشية من المساءلة والعقاب.
استفادت الهيئة ذاتها من دروس التجربة، فتلافت فى التكرار ما غاب عنها فى الاستباق. وواكبتها الأجهزة التنفيذية بكل الإجراءات الكفيلة بمنع الخروقات، أو تحجيمها إلى أدنى قدر ممكن.

الغالب أن عملية المُراجعة، وما بُنِى عليها من تصوّرات بشأن الاستدراك والإصلاح، قد اشتملتا على استبعاد كثيرين من مُشرفى اللجان ومُعاونيهم، أو إعادة التوزيع، وتنشيط الاتصال اللحظى مع المُراقبين وغرف عمليات المتابعة الحزبية والمدنية، وغير ذلك من استجابات تجلّت فى البيانات المُساوقة للاقتراع فى وقته، وتضاؤل حيِّز الاعتراض والملاحظات التالية كثيرًا بالقياس إلى ما كان فى المرحلة الأولى.

لعبت الفرق الأمنية دورًا مُهما فى تحقيق الردع الاستباقى والمُتزامن أيضًا. شدّدت رقابتها على المراكز الانتخابية، وانتشرت بكثافة فى مُحيطها. تتالت بيانات الداخلية عبر صفحتها الرسمية بالرد على الشُبهات المُثارة، أو بالمبادرة إلى ضبط غيرها والإعلان عنها سريعا، مشمولاً بتوقيف المتورطين فى خروقات الدعاية والحشد المُنظّم ومحاولات شراء الأصوات، وغير ذلك من أمور مُعتادة، حتى أنها باتت من قبيل الفولكلور المعجون بإرث الممارسة السياسية، والمُتكرر من ممارسيه عقودًا طويلة باعتباره خبرة تاريخية مُلازمة لهكذا فعاليات.

ولا يعنى كل ما فات أن الصورة العامة مثالية تماما، أو لا تشوبها ملاحظات. ومع غابة تنافسية يستبق فيها 1316 مرشحا على 141 مقعدا تقريبا، فنحن على الأقل إزاء نحو 1000 مرشح خارج قائمة الفائزين أو المشمولين بالإعادة، وكل واحد منهم يَعُد نفسه جديرًا بالتمثيل وقادرًا على المنافسة، ما يُحمَل بالتبعية على استشعار المظلمة جرّاء الخسارة.

وإن تقدّم خُمس هذا العدد فقط بطعون على الجولة، فستكون المحكمة الإدارية العُليا على موعد من 200 طعن تقريبًا، قد تزيد أو تقلّ، لكن مجلس الدولة سيزدحم بالطاعنين فى كل الأحوال.

وحصيلة الأيام العشرة أو الاثنى عشرة المُقبلة ستُؤكِّد ما أشرنا إليه أو تنفيه. لا قيمة لحجم المطاعن وأعدادها، إنما الاعتبار بما ستُسفر عنه عملية النظر فى تفاصيلها، والأحكام الصادرة بشأنها بعد فحص الوقائع وتمحيص الأوراق. ويُمكن الحُكم على الجولة كُلّها بمقدار ما سيزيد أو يقل من الدوائر المُلغاة قضائيا. وأحسب شخصيا أنها ستكون أقلّ كثيرًا من ثلاثين دائرة أُبطِلَت فى المرحلة الأولى.

باكتمال الجسم العريض من الاستحقاق بمرحلتيه فى الجولتين الأُوليين، صار لدينا 284 نائبا من الفائزين فى القوائم، و82 من شاغلى المقاعد الفردية، بإجمالى 366 نائبا مُنتخبًا، يُنتظر أن يُضاف إليهم نحو 28 آخرين يُمثّلون نسبة الـ5% المُعيّنة من رئيس الجمهورية، بما يصل بالعدد إلى 396 نائبا يُمثّلون نسبة 67% تقريبا من تعداد المجلس بنوابه المُنتخبين والمُعيّنين.

ما يسمح بانعقاده فى موعده المقرر دستوريا، انعقادًا صحيحًا، بغض النظر عن نتائج ما تبقّى من الاستحقاق الانتخابى، وعن مهلة الـ60 يومًا المُحددة لمحكمة النقض، للفصل فى صحة العضويات الفردية المطعون عليها.

الأهم، أن النواب المُشار إليهم ترتّبت لهم مراكز قانونية ثابتة، وما عاد مُمكنًا انتزاعها منهم إلا بُموجب أحكام قضائية من جهة الولاية، أى قضاة النقض، وهو ما ينسحب على 41 فقط من نواب المرحلة الأولى، إذ فاز عضو فيها بالتزكية، وقد يشمل الفائزين الجُدد فى المرحلة الثانية كُليًّا أو جزئيًّا، وربما لا تمتد إليهم المطاعن من الأساس.

والفكرة، أننا بصدد عملية انتخابية منضبطة فى إطارها العريض بالدستور والقانون، ومُحصّنة بهما أيضًا، ولا وجه فيها لتنازُع الشرعية أو الحديث عن إبطال أو إلغاء، من منظور عام وشامل.

تنسحب ولاية الهيئة الوطنية للانتخابات بمُجرّد إعلان النتائج، ولا صلاحية دستورية لدى أى مستوى تنفيذى أو قضائى فى إصدار حُكم عام على العملية الانتخابية، اللهم إلا أن يُدفَع جزئيًّا فى سياق المنازعات الإدارية القائمة بعدم دستورية مادة أو أكثر من القانون المُنظّم للاستحقاق، وهو ما لم أسمع بحدوثه، أقله حتى الآن.

والقصد، أن حديث المواءمة السياسية لا دخل له من قريب أو بعيد بالصحة من منظور القانون، إذ المعيار أن تكون الممارسة منضبطة وفق ظاهر النصوص، مع إتاحة الاعتراض عليها من القنوات الشرعية المُتاحة، والتزام حُجيّة الأحكام القضائية وعدم الافتئات عليها، والهيئة التزمت بما أقرّته الإدارية العُليا سابقًا، ولا تصوّر عن أنها لن تلتزم لاحقًا، أمّا قضايا النقض فإمّا أن تُثبّت مراكز القائمين، أو تُعيد مقاعدهم إلى نقطة الصفر الأولى، ليبدأ من بعدها مسار جديد بانتخابات تكميلية، من فتح باب الترشح مرورا بكل التفاصيل التالية حتى الوصول إلى الصناديق.

قد تكون العملية مُرضية لأطراف الشقِّ الثانى عن الأول، أو محل جدل من الجميع، لكنها سليمة فى إطارها العريض. على أن الانتقال الإيجابى بين حالين فى غضون أسبوعين فحسب، إنما يفرض على الجميع الاضطلاع بمراجعة شاملة لكل الاعتبارات، ذاتيا وموضوعيا، ومن أدنى مستوى داخل كل حزب سياسى، إلى أعلى مرجعية تُمثّلها الهيئة الوطنية للانتخابات.

ومن وراء ذلك جهاز الدولة بالطبع، وفى كل ما يتّصل بأدواره الواجبة قبل الاستحقاقات وبعدها، وعلى امتداد المجال الاجتماعى والثقافى الواسع بين الأفراد والمؤسسات/ المواطن والنظام العام.

كلُّ مُلتزمٍ أو مُخالف يُلاقيه ناخبون من العجينة نفسها، وفى الأحزاب والكيانات السياسية أيضًا. والدعوة ليست إلى التصدّى للوقائع فى ميقاتها فحسب، إنما أن تكون العملية كلها دائمة لا موسمية، بمعنى الاشتغال عليها طوال الوقت فى كل جزء أصيل منها، وأن تكون الديمقراطية كقيمة عُليا فى ذاتها، حاضرة نصب الأعين وفى مجال الممارسة العملية، بحيث تتحوّل إلى خُبز يومى للنخبة والعوام.

على الأحزاب أن تنشط بدرجة أكبر، وأن تتصل بقواعدها، وتُعمّق جهودها بالأنشطة والفعاليات ومدارس الكادر. على الفاعلين الثقافيين الاضطلاع بأدوار ملموسة فى بيئاتهم، وعلى الدولة بكل مواردها أن تهتم بالتثقيف والتأهيل والتوعية كثابت أصيل ضمن مهامها الحيوية، وما يتوزّع على دولابها التنفيذى بحسب تنوعاته ودوائر المهتمين به.

ربما يبدأ الأمر من تشغيل الآلة الجبّارة لدى الوزارات الخدمية، مثل الثقافة والشباب والرياضة والتعليم والأوقاف وغيرها. ندوات وورش عمل دورية مُنتظمة، وممارسة ديمقراطية يُعاد تثبيتها بالتجربة والخطأ فى كل المستويات: أندية الأدب والمسرح، ومجالس إدارة الفروع الثقافية ومراكز الشباب، ومجالس الآباء والمعلمين.

مع التوسع فى تجربة برلمانات الطلائع والشباب، وربما ابتكار صيغة البرلمان الشعبى، وصولاً إلى المجلس المحلية بعد اعتماد قانونها وإجراء انتخاباتها مستقبلا. كما يُمكن استحداث مجالس أُمناء للمساجد والمؤسسات التنفيذية والاجتماعية، تكون لها أدوار استشارية واتّصالية غير تنفيذية، لكنها تُعزّز فكرة المُشاركة وأهميتها، وتُدرّب المشمولين بها على ثقافة المنافسة والاحتكام إلى الديمقراطية التمثيلية.

كثيرون من الناخبون لا يعرفون، ليس لأنهم غير مُهتمين كما يقول البعض، ولكن لأنهم يُدعَون إلى الأمر على فواصل بعيدة مُتقطّعة، فلا تترسّخ قيم الانتخاب فى نفوسهم، ولا يستشعرون أثر أصواتهم ومدى أهميتها، فضلا على أنهم لا يختبرون حلاوة أن يكونوا فاعلين وذوى قرار.

تتوجّب تنشئة الصغار على ذلك بدءا من مدارسهم، بمجالس إدارة للفصول تتسع وتتصاعد عبر مستويات عدة للأدوار والمراحل وصولا إلى اتحاد طلاب كل مدرسة وإدارة ومحافظة، وكذلك فى الجامعات والمُنتديات وغيرها.

إن أُحسِنت تربيةُ الناخب سياسيا ومَعرفيًّا، وتدريبه على ذلك من مراحله المُبكرة، فلن يكون سهلاً التلاعب به لاحقًا، وهو نفسه لن ينزلق إلى المُخالفة، والأهم أنه لن يستجيب للمُخالفين.

نتائج المرحلة الثانية لانتخابات مجلس النواب جيدة، حتى لو تلتها ملاحظات وطعون وأحكام. والإفادة فيها أن كل خطأ يقبل التصويب، طالما لا نُنكره ولا نتعالى عليه، وأن التدرج والتراكم يُمكن أن يكونا فاتحة طريق إلى الإصلاح والانضباط الشاملين.

بداية يُمكن التعويل عليها، والبناء فوقها، والترقّى معها حلقة بعد أُخرى، والمهم أن نعرف أن التقويم طريقه طويلة شاقة، وأن السماء لا تُمطر ديمقراطيات مُكتملة وناضجة، إنما يُسعَى إليها حثيثًا، ويتحصّل عليها الذين لا يملّون طرق الأبواب، ولا يتوقفون عن المحاولة بدأب وإصرار.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب