قياتى عاشور

وهم الفهلوة.. حينما نُصفّق لمن يسرق حقوقنا!

الإثنين، 29 ديسمبر 2025 02:12 م


في قاموسنا الشعبي المصري، تحتل مفردة "فهلوة" مكانة شديدة الالتباس؛ فنحن نستخدمها تارة للمدح لوصف شخص "حِرك" يجيد تدبير أموره في أحلك الظروف، ونستخدمها تارة أخرى لتبرير التجاوز والقفز فوق القواعد. ولكن، إذا وضعنا هذا المفهوم تحت مجهر علم الاجتماع، سنجد أننا لسنا أمام مجرد سلوك فردي عابر، بل أمام ظاهرة ثقافية متجذرة تستحق التشريح؛ لأنها لا تكشف فقط كيف نتصرف، بل تفضح كيف ننظر إلى مفاهيم كبرى مثل "العدالة" و"النظام" و"الدولة".


تخيل معي هذا المشهد اليومي المتكرر: طابور طويل من السيارات يزحف ببطء أمام إشارة مرور، الجميع ينتظر دوره بملل، وفجأة تظهر سيارة من أقصى اليمين، تقتحم الصفوف بجرأة، وتتجاوز الجميع لتقف في المقدمة. في تلك اللحظة، ينقسم رد فعلنا الداخلي إلى شطرين متناقضين: غضب مشروع من هذا التعدي السافر، وشعور خفي -ومؤسف- بأن هذا السائق "شاطر" وعرف كيف ينجو بنفسه من الزحام، بينما نحن الواقفون بانتظام مجرد "سذج" أو "خايبين".


هذه الازدواجية الشعورية هي جوهر الأزمة؛ فقد رسخت الثقافة الشعبية لسنوات طويلة فكرة مفادها أن الالتزام الحرفي بالقانون هو نوع من "الجمود" وقلة الحيلة، وأن الذكاء الاجتماعي يكمن في القدرة على إيجاد "ثغرة" أو "واسطة" أو حل التفافي. وهكذا، تحولت "الفهلوة" من مهارة محمودة في حل المشكلات، إلى "أيديولوجية" تبرر الاستيلاء على حقوق الآخرين تحت شعارات براقة مثل "الجيش قالك اتصرف" أو "مشّي حالك"، ليتحول المجتمع تدريجياً إلى ساحة سباق، الفائز فيها ليس الأكفأ، بل الأجرأ على كسر القواعد.


من منظور سوسيولوجي، يضرب هذا السلوك في مقتل ما نسميه "عقد المواطنة"؛ فالدولة الحديثة تقوم بالأساس على مبدأ "قواعد عامة ومجردة تطبق على الجميع دون استثناء". وحينما يصبح الاستثناء هو القاعدة، وحينما يُكافأ المتجاوز بسرعة الوصول ويُعاقب الملتزم بطول الانتظار، تتآكل الثقة في النظام العام، وتنهار القيمة المعنوية للقانون، ليصبح مجرد نصوص مكتوبة لا روح فيها، ونعود دون أن ندري إلى منطق "الغابة المهذبة"، حيث البقاء للأكثر دهاءً.


إن الخطورة الحقيقية لثقافة "الفهلوة" لا تكمن فقط في أنها تعطل مصالح الناس، بل في أنها تعيد تشكيل وعي الأجيال الجديدة بشكل مشوه. نحن نرسل لأبنائنا رسالة ضمنية كارثية مفادها أن "الغاية تبرر الوسيلة"، وأن الالتزام هو طريق الفشلة. لذا، فإن "الشطارة" الحقيقية التي نحتاجها اليوم، ليست في القدرة على الالتفاف حول القانون، بل في القدرة الشاقة على احترامه حتى لو لم يرنا أحد.


آن الأوان لنسقط القداسة عن "الفهلوي"، ونعيد الاعتبار للمواطن "المنضبط". علينا أن ندرك أن الدول لا تُبنى بـ "تفتيح المخ" والمناورات الصغيرة، بل تُبنى باحترام القواعد والنظم؛ فالأمم المتقدمة لم تسبقنا لأنهم أذكى منا جينياً، بل لأنهم أدركوا مبكراً أن احترام "الطابور" هو الخطوة الأولى والأساسية نحو احترام "إنسانية الإنسان".


 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة