لم تعد أخبار جرائم الغدر والخيانة مجرد عناوين عابرة في صفحات الحوادث، بل تحولت إلى مرآة مقلقة لخلل أعمق يتسرب إلى نسيج العلاقات الإنسانية، أن يقتل شقيق شقيقه، أو زوج زوجته، أو زوجة زوجها، فتلك جرائم تهز الضمير وتثير الفزع، لكن الأكثر رعبا وتأثيرا على أمن المجتمع، أن يقتل الصديق صديقه بدم بارد، ولأسباب تافهة أو بدوافع غامضة، وأن تمتد الجريمة إلى التمثيل بالجثة أو تقطيعها أو حرقها، وكأن الفعل لا يكتفي بإزهاق الروح بل يسعى إلى محو الإنسان ذاته.
ما شهدناه مؤخرًا من قضايا صادمة، كان آخرها قضية مقتل مهندس على يد صديقه في الإسكندرية، لم يوقظ الخوف فقط، بل يطرح سؤالًا مُلحًّا: كيف وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها القريب أخطر من الغريب؟
الغدر، في جوهره، ليس فعلًا لحظيًا، بل نتيجة مسار طويل من التآكل القيمي.. هو انهيار الثقة التي تقوم عليها الروابط الأولى بين البشر، حيث إنه حين يقتل الصديق صديقه، فالجريمة لا تقع على جسد فرد فحسب، بل على فكرة الصداقة ذاتها، على مفهوم الأمان الذي يمنحه القرب. لذلك تبدو هذه الجرائم أكثر قسوة من غيرها، لأنها تهدم آخر حصون الطمأنينة.. إن تكرارها خلال الفترة الماضية، وبوتيرة لافتة، يدفعنا إلى قراءة الواقع بعيون نقدية، لا تكتفي بإدانة الفعل، بل تحاول تفكيك أسبابه النفسية والجنائية والاجتماعية.
من الناحية النفسية، تشير هذه الجرائم إلى تصاعد أنماط شخصية مضطربة لم تعد حبيسة العيادات أو الدراسات الأكاديمية، بل خرجت إلى الشارع. اضطرابات مثل النرجسية الحادة، والعدوانية الكامنة، وضعف التعاطف، لم تعد استثناءات.. الفرد الذي يقتل صديقه قد يكون مدفوعًا بإحساس مرضي بالتملك، أو غيرة متضخمة، أو شعور بالدونية يتحول إلى عدوان حين يُستفز.. وفي حالات كثيرة، تكون الأسباب المعلنة تافهة، لكنها ليست الدافع الحقيقي؛ الدافع الأعمق هو تراكم الإحباط، والفشل، والغضب غير المُعالَج، الذي يجد في القريب أسهل هدف.
أما من الزاوية الجنائية، فتُظهر هذه القضايا أن العنف لم يعد عشوائيًا فقط، بل صار أكثر تخطيطًا ووحشية.. التمثيل بالجثث، أو تقطيعها، أو محاولة إخفائها بالحرق أو الدفن، يكشف عن انتقال الجريمة من رد فعل انفعالي إلى سلوك إجرامي واعٍ يسعى للإفلات من العقاب.. هذا التحول يعني أن بعض الجناة يمتلكون قدرة على كبح الشعور بالذنب مؤقتًا، أو أنهم فقدوه أصلًا، وهو ما يطرح تساؤلات حول فعالية الردع، وحول الرسائل غير المباشرة التي يتلقاها المجتمع حين يرى مجرمين يراوغون العدالة أو يطيلون أمد التقاضي.
لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن السياق الاجتماعي والاقتصادي الأوسع.. الضغوط المعيشية المتزايدة، وتآكل الطبقة الوسطى، والشعور العام بانسداد الأفق، كلها عوامل تُغذّي الغضب، لكن الغضب وحده لا يفسر الغدر؛ فالغدر يحتاج إلى فراغ أخلاقي. حين تتراجع قيم الحوار، وحين يُختزل النجاح في المال السريع أو السيطرة، وحين تصبح القوة معيارًا خفيًا للرجولة أو الهيمنة، تتآكل الحدود التي كانت تمنع اليد من أن تمتد إلى السكين.
وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا مزدوجًا في هذا المشهد.. فمن جهة، هي منصة لكشف الجرائم ومحاسبة الجناة معنويًا، ومن جهة أخرى ساهمت في تطبيع العنف عبر تكرار المشاهد الصادمة، وتحويل المأساة إلى محتوى.. التلقي اليومي لأخبار القتل، مع عناوين مثيرة وصور مُروّعة، قد يُحدث نوعًا من التخدير الوجداني. يصبح القتل خبرًا، لا فاجعة، وتتحول الصداقة إلى علاقة هشّة قابلة للانفجار عند أول خلاف.
قضية مقتل المهندس الإسكندرية، التي أثارت الرأي العام، ليست استثناءً، بل نموذجًا مكثفًا لهذه التناقضات.. صداقة طويلة، خلاف يبدو بسيطًا، نهاية دموية، ومحاولات يائسة لإخفاء الجريمة، ما أثار الفزع ليس فقط بسبب الفعل المأسوى، بل البرود الذي رافقه، وكأن الحياة فقدت وزنها.. هذه القضية، وغيرها، تكشف أن الخطر لم يعد في الشارع المظلم، بل في الغرفة المألوفة، وفي الشخص الذي نشاركه الخبز والضحكة.
أرى أن الإعلام يتحمل مسؤولية خاصة في التعامل مع هذه الجرائم.. التناول المهني يجب أن يتجاوز الإثارة، وأن يركز على السياق والتحليل، وأن يُبرز العواقب القانونية والنفسية للجريمة، لا تفاصيلها الدموية، كما أن للمؤسسات التعليمية دورًا لا يقل أهمية؛ فتعليم مهارات إدارة الغضب، وحل النزاعات، وبناء التعاطف، لم يعد ترفًا، بل ضرورة وقائية.
الدولة، من جانبها، مطالبة بتعزيز منظومة العدالة السريعة والناجزة، وبالاستثمار في الصحة النفسية بوصفها خط دفاع أول، إلى جانب إتاحة خدمات الدعم النفسي، وكسر الوصمة المرتبطة بها، قد يمنع جريمة قبل أن تقع، كما أن إنفاذ القانون بحزم، وإعلان نتائج التحقيقات بشفافية، يرسّخ شعورًا بأن العدالة ليست بعيدة، وأن الجريمة لا تُكافأ بالصمت أو النسيان.
كما أرى أن المسئولية الكبرى تبقى مجتمعية، فإعادة بناء الثقة تبدأ من البيت، من طريقة إدارة الخلافات داخل الأسرة، ومن نموذج الأب والأم في الحوار، ومن قدرة الأصدقاء على الاختلاف دون شيطنة، فالصداقة ليست عقد ملكية، ولا ساحة صراع خفي، بل علاقة قائمة على الحدود والاحترام، وحين نُعلّم أبناءنا أن الخلاف طبيعي، وأن الغضب شعور يُدار لا سكين يُشهر، نضع لبنة في جدار الوقاية.
إن تفاقم وتزايد أعداد جرائم الغدر والخيانة خلال الفترة الماضية ليس قدرًا محتومًا، بل إنذار بأن المجتمع يحتاج وقفة شجاعة لمراجعة القيم، والاعتراف بأن العنف لا يولد فجأة، بل يُربّى بصمت.
إن الكتابة عن هذه الجرائم ليست لإعادة إنتاج الخوف، بل لتحويله إلى وعي، والوعي إلى فعل، فالحياة التي تُزهق بالغدر تُطالبنا جميعًا بأن نعيد الاعتبار للإنسان، قبل أن يصبح القريب عدوًا، والصديق قاتلًا.